قراءة في تطور مفهوم التوظيف بالتعاقد في الوثائق والقوانين التربوية


د. عبد الله الخياري 

عند تناول موضوع نظام التوظيف بالتعاقد، الذي طبق في وزارة التربية الوطنية منذ 2016 ، وتمت إعادة تسميته منذ 2019 ب " الأساتذة أطر وموظفي الأكاديميات"، ينبغي العودة إلى جذور المسألة وأسباب نزولها. وكيف تطور المفهوم في الوثائق والقوانين والأنظمة الأساسية للأساتذة المتعاقدين.

فمفهوم "التعاقد" لم يستعمل في الأدبيات والخطابات التربوية المغربية قبل مرحلة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، لكن كانت هناك، ابتداء من أواسط ثمانينات القرن الماضي، ما دُعي آنذاك بتوظيف الأساتذة العرضيين، مع وجود، بالطبع، فارق كبير بين الصيغتين ( أي العرضي والمتعاقد)؛ لأن التوظيف العرضي لم يكن يستهدف الجسم التعليمي بكامله كالتعاقد، بل كان محدودا جدا في فئات يتم الاستعانة بها لشهور أو سنة لسد الخصاص فقط، لذلك أُطلق عليهم في مرحلة ما: "أساتذة سد الخصاص". 

و يجدر بالذكر هنا  أن إعداد الميثاق الوطني للتربية  سنة 1999 قد تزامن مع ظرفية مالية ازدادت فيها نسب المديونية، واقترنت بتداول توصيات ما فتئت الصناديق الدولية الممولة تُصْدرها، مفادها أن الحفاظ على التوازنات المالية تقتضي تخفيض كتلة الأجور، و"ترشيد" نفقات القطاعات الاجتماعية، باعتبارها قطاعات غير منتجة حسب منظري تلك الصناديق الدولية الممولة. وتفاعلا مع تلك الموجهات الداعية إلى تجويد التعليم ورفع مردوديته الخارجية وربطه بالشغل وتقليص نفقاته،  كانت للميثاق الوطني، ولأول مرة جرأة اقتراح التعاقد بمضمون ليبرالي تقريبا يُحكّم قوانين السوق، وذلك في قطاع اجتماعي تربوي وحيوي مرتبط بتنشئة وتكوين مُوَاطن الغد. ومن الغريب أن التوافق بين مكونات المجلس الأعلى للتعليم آنذاك وضغوطات المرحلة السياسية لم يسمحا بتعميق النقاش في اختيار التعاقد، وتم تمريره تحت مبرر الترشيد والجودة والمردودية والقابلية للتشغيل.

وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ التسعينيات من القرن الماضي إلى منتصف العقد الثاني من القرن الحالي، حيث بدأت صناديق التمويل الدولية تغير لهجتها بالتدريج، وصار البنك الدولي يصدر تقارير ضافية حول التربية وأهمية التعليم في التنمية البشرية ومحاربة الفقر والهدر المدرسي والعدالة المجالية في التعليم ...الخ. وهو الأمر الذي خلق ارتباكا في التخطيط  للسياسات العمومية في المغرب وغيره من البلدان النامية، حيث ظهرت ازدواجية بين الرؤى والمواقف الداعمة للقطاعات الاجتماعية ومنها التعليم ، وبين المواقف الداعمة لتوسيع اقتصاد السوق والحد من النفقات الاجتماعية.   

 وتزامنا مع التوجهات الجديدة للصناديق الدولية المتعلقة بالعودة لتثمين أدوار التربية في التنمية، نلاحظ أن الرؤية الإستراتيجية 2015-2030 لم تخف ميلها لهذا التوجه الرامي إلى تنويع مصادر التوظيف في التعليم المدرسي، واعتماد تدبير جهوي للموارد البشرية، حينما أوردت في الرافعة التاسعة بند 59 " مبدأ تنويع أشكال توظيف مدرسي التعليم المدرسي"، دون ذكر كلمة "تعاقد"؛ لكنها ( أي الرؤية الإستراتيجية) تحيل في هذا الصدد على مرجعية الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مؤكدة على أن تنويع أشكال التوظيف ينبغي أن يكون طبقا للمادة (135 أ) من الميثاق، التي تشير بصريح العبارة إلى فكرة التعاقد، حيث أوصت المادة المشار لها في الميثاق على " تنويع أوضاع المدرسين الجدد، بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد". 

يبدو، إذن من خلال هذه القراءة، أن "الرؤية الإستراتيجية" كانت خجولة إلى حد ما في استعمال كلمة "التعاقد"،  لكنها استنجدت بالميثاق، الذي كانت له الجرأة الكافية للدعوة بصريح العبارة للتعاقد كأسلوب في التوظيف... أما القانون الإطار17-51، فقد أغفل تماما، في صيغته النهائية، ربما تحت تأثير النقاش العمومي والاحتجاجات آنذاك، أقول أغفل القانون الإطار الإشارة للتوظيف بالتعاقد، بعد أن كان ذلك واردا في مسودته الأولى؛ واكتفى فقط بالتنصيص في الباب السابع المتعلق بحكامة المنظومة على "تفعيل التدابير اللازمة لمواصلة تفعيل سياسة اللامركزية واللاتمركز في تدبير المنظومة على المستوى الترابي". أما الباب السادس المتعلق بالموارد البشرية فقد خلا تماما من أية إشارة للوضعية الجديدة التي أصبح فيها  نصف الموارد البشرية تقريبا من أطر الأكاديميات، إذ هناك صَمت مطبق في القانون الإطار على وضعيتهم وعلى تدبير تكوينهم ومسارهم المهني، ولم يخصص القانون الإطار فئة دون غيرها، بل كان يستعمل فقط وفي كل بنوده عبارة "الأطر التربوية". 

وتأسيسا على أن القانون الإطار 17-51 أصبح يشكل الآن الإطار التعاقدي الوطني لتنفيذ مشاريع إصلاح المنظومة التربوية، فهو كما ذكرنا يتحدث عن "الأطر التربوية" دون تخصيص لفئة دون غيرها، وبالتالي فإن مفهوم "الأساتذة أطر وموظفي الأكاديميات" لم يرد فيه. كما سارت الوثيقة التي أعدتها الوزارة تحت مسمى "حافظة مشاريع تفعيل مضامين القانون الإطار17-51"، على نفس المنوال بالإشارة فقط إلى دعم مشاريع اعتماد تدبير جهوي للموارد البشرية انسجاما مع النهج اللامتمركز للمنظومة.

والاستنتاجات التي أريد أن أخلص إليها من هذه القراءة السريعة هي:
1 - إن الإدعاء بأن التعاقد هو اختيار استراتيجي لا ينبني، في نظري، على مرتكزات ثابتة، لأن اختيار هذا الشكل في التوظيف جاء نتيجة، من جهة، للتفاعل الايجابي للحكومات السابقة مع توصيات - حتى لا أقول إملاءات-  الصناديق الممولة؛ ومن جهة ثانية ارتبط التوظيف بالتعاقد بوضعية ظرفية مؤقتة تدبيرية هي الخصاص في الموارد البشرية، الذي تسببت فيه قرارات سياسية غير مدروسة لمدبري القطاع التعليمي في سنوات2013 و 2014و2015 و2016 ؛ ونشير هنا فقط  بقرارات ومراسيم : فصل التكوين عن التوظيف، ومنع أساتذة العمومي من الاشتغال في الخصوصي، وتفعيل استفادة الأستاذة من التقاعد النسبي، وهو ما أدى إلى ارتفاع مهول في الخصاص بلغ أكثر من 35 ألف أستاذ.  فعلى ما يبدو كنا أمام سيناريو عملت فيه قرارات المسؤولين على "فبركة" الخصاص إراديا، بسبب القرارات السابقة، وذلك من أجل تقديم التعاقد كحل لا مفر منه.

2 – إن القول بأن التوظيف بالتعاقد في القطاع التعليمي هو خطوة أولى لإرساء النسق الجهوي الموسع، هو تبرير لا يستقيم منطقيا، لأنه يشبه منطق من يضع العربة أمام الحصان. فالجهوية ينبغي أن تتمأسس كمنظومة قائمة الذات  لها خصوصيتها ومواردها المادية وطاقاتها الاقتصادية والثقافية؛ آنذاك يمكنها أن توظف جهويا مواردها البشرية في جميع  القطاعات،  وليس فحسب في التعليم ، وأن تؤدي أجورهم من موارد الجهة، وليس من ميزانية الدولة.

3 - أن مأسسة التعاقد كخيار استراتيجي ثابت وغير ظرفي، كما هو عليه الأمر في بعض الدول المتقدمة، يرتبط بالدينامية الاقتصادية التي انتقلت من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المعرفية، وارتبطت أيضا ببزوغ الثورة الصناعية الرابعة، وبتطور غير مسبوق في المهن التي صارت تتغير وتتجدد بعد مدد زمنية متقاربة. و قد سمح ذلك للفاعلين المهنيين في تلك الدول بتغيير مهنهم مرة أو مرتين خلال مسارهم المهني، وهو ما يتساوق ويتلاءم مع  نظام العمل بالتعاقد في جل القطاعات. وغير خاف أننا في المغرب لم نلج بعد هذه الآفاق، ولم نندمج بعد في  التحول الرقمي العميق للاقتصاد  وللأعمال والخدمات، كما هو عليه الأمر في الدول الرائدة في اقتصاد المعرفة.

4 – الارتباك والتضارب والهشاشة القانونية في النصوص المنظمة للتعاقد، فالتوقيع  بين وزير التربية الوطنية ووزير المالية على مقرر التعاقد سنة 2016 تم في ظروف الاستعجال، وفي العطلة التشريعية، ولم يصادق عليه في البرلمان، كما أنه لم يصدر في الجريدة الرسمية. ثم هناك الارتباك الحاصل بسبب تغيير وتعديل القوانين منذ 2016 بشكل متتابع ( نحن أمام صياغة ثلاثة نصوص قانونية في أربع سنوات، وهو مؤشر على مدى التخبط الحاصل )؛ واستتبع ذلك تغييرا في تسميات المتعاقدين من " الأساتذة الموظفين بموجب عقود" سنة 2016، إلى "الأساتذة المتعاقدين"  سنة 2018، إلى " أطر وموظفي الأكاديميات" سنة 2019، والمعنيون بالأمر يسمون أنفسهم "الأساتذة المفروض عليهم التعاقد"، لأنهم يشعرون أن عقودهم هي "عقود إذعان ". 

5 – الانعكاسات السلبية للتوظيف بالتعاقد على التكوين الأساسي للمدرسين، الذي كان يعاني بدوره من التخبط وضبابية الرؤية، لأنه نتيجة ضعف حكامة التدبير كان التكوين يمثل الحلقة الأضعف في المنظومة. وهكذا ازدادت أزمة منظومة التكوين استفحالا مع قدوم المتعاقدين، لأن التكوين كان شبه مشلول خلال سنتي 2016 و2017 ؛ وبالنسبة لأفواج سنتي 2018 و 2019 كان هناك عدم انتظام التكوين، وتقليص في الزمن التكويني، وفي المجزوءات والتداريب. ومن المسلم به لدى الجميع أن لا جودة ولا فعالية تُرجى من الأداءات المهنية للفاعلين التربويين بدون تكوين متين وممهنن ومستمر. 

6 - أن "الزلة" التي وقع فيها "الميثاق الوطني" بالدعوة بصريح العبارة للتعاقد، لم تلق نفس الحماس، سواء في "المخطط ألاستعجالي" أو في "الرؤية الإستراتيجية" أو "القانون الإطار"، وحتى في "حافظة المشاريع". وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن الإكراهات والإملاءات الدولية قد تقلصت، كما سبقت الإشارة لذلك؛ كما أن الاكراهات السياسية الداخلية قد بدأت في التغيير خصوصا مع قرب الاستحقاقات الانتخابية؛ وهناك الدروس البليغة المستفادة من جائحة كوفيد 19 (إعادة تثمين قطاعي التعليم والصحة)، كما أن هناك وعي مجتمعي استباقي يريد إنقاذ المدرسة العمومية، لأن استمرار التعاقد سيعصف تماما بالأمل في إنقاذها من براثين الفشل. إذن، كل توابل الحل متوفرة حاليا، والأمر لا يقتضي سوى جرأة سياسية، والتقائية الرؤى التي يهمها مستقبل البلاد، وذلك لإغلاق هذا القوس المشؤوم . 

وتأسيسا على هذه الرؤية المتفائلة والتي تدعمها القراءة التي قمت بها للوثائق والنصوص القانونية، والتي  انتهت إلى أن التعاقد أُسقط من الخطابات، لكن اُحتفظ بمدلولاته في القوانين الأساسية لأطر الأكاديميات، أعتقد أن عجلة إصلاح المنظومة التربوية قد تحركت، والكل يعلم أن الإصلاح لا يمكن أن يأتي أكله في ظل الاحتقان والغليان، وأن الأزمة الحالية تستدعي إعمال الذكاء الجماعي لإبداع الحلول. وفي هذا السياق ينبغي تحويل الأزمة إلى فرصة لفتح حوار مثمر وبناء من أجل حلول ترضي الطرفين، وفي هذا السياق من الممكن مواصلة دينامية مراجعة القوانين الأساسية للأطر التربوية، الذي بدأ في 2019،  في اتجاه تجاوز الازدواجية في القوانين القائمة حاليا، وإنتاج قانون أساسي جديد لجميع فئات الأطر التربوية، دون تمييز، يتأسس على مبدأين هما: إدماج الأساتذة المعنيين في الوظيفة العمومية؛ وتوطينهم في الأكاديميات الجهوية، أي إيجاد صيغة توافقية قريبة من الصيغة التي تُدبر بها حاليا الموارد البشرية في التعليم العالي في المغرب.

وفي الأخير نشير إلى أن الدروس المستفادة من جائحة كوفيد19 قد بينت  أهمية التعليم والبحث العلمي، وأولوية المجال الحيوي والصحي بالنسبة للمحافظة على البقاء واستمرار الدولة والمجتمع، كما بينت الجائحة أن الخوصصة والتسليع ومنطق السوق لم يعد أولوية، خصوصا بعد أن تبين للجميع منافع الدولة الراعية وأهمية قيم التضامن والتماسك الاجتماعي. فالسياسات العمومية في زمن ما بعد الجائحة ينبغي أن تتغير، وأن تستحضر دروس الأزمة الصحية، وأن تقوم  بإعادة ضبط التوازن بين الاجتماعي وبين اقتصاد السوق. لذلك يتعين التفكير في مراجعة المواقف المتصلبة واستحضار مقاربة اجتماعية تعيد الاعتبار للعنصر البشري وتحد من الهشاشة المهنية، وتضمن الاستقرار الاجتماعي والأمن النفسي لهذه الفئة من الأساتذة، بواسطة  إدماجهم في الوظيفة العمومية أسوة بباقي الفئات التعليمية، مع إرساء مقاربة تصحيحية واستراتيجية في مجال الموارد البشرية تعتمد على التثمين والتكريم وتحسين صورة الفاعلين التربويين، وإقامة نظام لتكوين الأساتذة بالمعايير الدولية، وتفعيل نظام لتقويم الأساتذة يكون ناجعا وفعالا، واعتماد رؤية استشرافية وتوقعية للخصاص في الموارد التربوية. 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-