الكبير الداديسي
moc.liamg@2002issidadde
رواية قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية) آخر أعمال الروائي والقاص السوري زياد كمال حمامي وهي ليست من الأعمال المغلق والمنغلقة على ذاتها التي يصعب على الدارس إيجاد منفذ لولوجها، ذلك أنها مشرعة الأبواب ويسهل على أي ناقد مقاربتها، فمداخلها وعتباتها من العنوان، إلى المقطع المقتطف من رسالة الإله بعل في الصفحة الأولى، مرورا بلوحة الغلاف وبداية النص إلى آخر جملة بنهاية الرواية... تغري بالدراسة. إضافة إلى تعدد محاور محتوى الرواية وتنوع التيمات والإحالات إذ تتنوع القضايا التي لامستها الرواية بين القضايا المحلية، الوطنية، القومية والإنسانية... مع تداخل السياسي والاجتماعي بالاقتصادي والثقافي، لتسبح بالقارئ بين عوالم متعددة ومواضيع متنوعة منها: الحب، التسامح، الصراعات العائلية، علاقات الجيران، مشاكل الشباب والمراهقين، وضع الأقليات في الوطن العربي، الصراعات الطائفية، القتل، اغتصاب الأحياء والموتى، الفساد، التطرف، وضع اليهود في سوريا، النزوح، شظف الحياة، المكر والخديعة في العلاقات الإنسانية، الصراع العربي الإسرائيلي.... لتبقى الحرب وتأثيرها على المجتمع السوري وما نتج عنها من تغير في طباع وعلاقات السوريين أهم تيمة في الرواية. وكل تيمة من هذه التيمات وغيرها تستحق قراءة نقدية خاصة، لكننا في هذه المحاولة سنحاول الوقوف على نقطة قد تبدو هامشية وأقل قيمة مقارنة مع باقي القضايا الأخرى، وهي دور الفن (النحت) في الرواية؟ وما قيمة الفن وسط الحرب والقتل؟...
لابد من الإشارة في البداية إلى أن ما جعلنا نختار هذا الموضوع دون غيره، بالإضافة إلى حضور النحت اللافت بين ثنايا الأحداث واشتغالنا على التعالق بين التشكيل والرواية العربية، هو افتتاح الرواية وانتهاؤها على إيقاع النحت:
- فهي تبتدئ وضربات البطل عبد السلام النحات على الصخر ينتحت تمثالا فكانت أولى الجمل بالرواية: (ضربات إزميل ناعمة تتنَّزل على الرأس تفتح حدودا ضيقة، ومتاهات متشابكة، تتشّكل على جسد الكتلة الصخرية الصماء، تلك القطعة التي تشبه في أخاديدها وجه زهرة اللوتس التي تعيد تشكيل نفسها، بنفسها، وتنبض بكل هو مدهش ومختلف ومذهل. تتوالى الضربات المتتالية من يد: عبدالسلام، الرشيقة، تظهر ملامح الخصب، والانبعاث من الرماد لجسد تمثال "الحريـة" الصفحة11. لتقدم لنا البطل وهو يتفرّس في أركان القبو "الكهف"، المُكتَظّ بمنحوتاته وأيقوناته، وعدّة تماثيل نصفيّة لشخصيّات تاريخية وفنّيّة، وبعض رسوماته السورياليّة الصفحة. 11
- وتنتهي الرواية والبطل يضحي بنفسه متحملا طلقات الرصاص من أجل صون تمثال الحرية الأثري وإنقاذه من المهربين وإيصاله إلى المتحف مفضلا فداء التمثال بروحه على أن يتم تهريبه خارج حلب: (وسقط على الأرض، مضرّجا بوطنه، نازفا، مشيرا بإصبعه إلى النعش، لحظتها، اقتربوا منه، نظر بعضهم إليه، وكأنّه يقرأ كتابا، أو يشاهد لوحة غريبة، وقبل أن يغمض عينيه، سمع صرخة مدوّية من أحد الحرَّاس:
- سيّدي! سيّدي! في الصندوق تمثال!)
وبين هذين المشهدين (البداية والنهاية) المشكلين لدقتي الرواية، ينسج السارد خيوط حكايته كما ينحت النحات معاناته في الصخر الأصم (الصفحة 11.) وهو ما يفرض على أي قارئ أسئلة من قبيل: لماذا اختار السارد نحاتاً بطلاً لروايةٍ موضوعها الحرب والاغتصاب؟ وماذا القيمة المضافة التي يمكن أن يضيفها فن النحت لرواية حرب؟ وهل يمكن أن يكون للفن(النحت) أي دور في إيقاف الحرب أو على الأقل التخفيف من حدة المأساة التي يعيشها الشعب السوري روائيا؟
قبل الخوص في هذا الموضوع نلفت عناية القارئ إلى تعدد الفنون التي وظفها السارد في بناء روايته سواء منها الفنون الأدبية (كالشعر)ـ أو الفنون الإيقاعية (الرقص والموسيقي) أو الفنون البصرية (السينما والتلفزيون)، أو الفنون التشخيصية (المسرح)، أو الفنون التشكيلية بمختلف تلويناتها من عمارة، تشكيل المجوهرات الرسم، والنقش... ليبقى النحت هو ذلك الخيط الرابط بين مختلف هذه الفنون ومن بين أهم القوى الفاعلة التي ساهمت في بناء وتطور الأحداث، فمن حين لآخر يتردد مشهد البطل عبد السلام وهو يضرب بالإزميل على منحوتات، سواء في لحظات الانكسار أو لحظات النشوة والفرح، وحتى لحظات النوستالجيا والحنين للحظات مشرقة من الماضي... فهل توظيف كل هذه الفنون في الرواية أمر عفوي واعتباطي؟
رواية قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية) رواية صدرت في طبعتها الأولى سنة 2018 في 318 صفحة من الحجم المتوسط، وهي موزعة على أربعة فصول متساوية المشاهد تقريبا ولذلك دلالته لأن لا شيء بريء في الكتابة الروائية ولا وجود لكتابة بيضاء:
• الفصل الأول يمتد من الصفحة 9 إلى الصفحة رقم 89 صفحة ويشمل عشرين مشهداً
• الفصل الثاني من الصفحة رقم 91 إلى الصفحة ويشمل 159 بثمانية عشر مشهداً
• الفصل الثالث يمتد من الصفحة 161 إلى الصفحة 233 ويشتمل على واحد وعشرين مشهد مشهدا
• الفصل الرابع ينطلق من الصفحة 235 إلى الصفحة 313 ويحتوي واحدا وعشرين مشهداً
تدور أحداث الرواية بحي البندرة الذي ظل عبر التاريخ مسرحا للتعايش وملتقى للمسلمين، المسيحيين اليهود، الأرمن، العرب، على طوائفهم ومذاهبهم كافّة: سنّة وشيعة، علويّين ودروز، بروتستانت أو كاثوليك، مؤمنون وملحدين، من أبناء الحي أو القادمين إليه من لبنان وإيران والعراق.... مما جعل حارة البندرة (تُعَدُّ حيّا شعبيّا تعدّديّا، متآلفاً) ص 214 لكن الحرب غيرت ملامح البندرة العمرانية بالتخريب والتفجير، والسكانية بالقتل والاغتصاب، والعلائقية بتسميم العلاقات ونشر الكراهية بدل التعايش، فكان طبيعيا أن تبتدئ أغلب فقرات الرواية بفعل مضارع (يفعل أو تفعل) دلالة على التوتر الذي يقع هنا والآن....
إن اختيار فنانٍ بطلا لرواية حرب واغتصاب يجد تفسيره في كون الفنان يعد أكثر الناس رقة وإحساس بالمآسي، له رؤية ثاقبة ترى مالا تراه العيون العادية، ليغدو الفن علاجا وبلسما للجروح الاجتماعية والنفسية العميقة، لمَا يتميز به الفن من تسامٍ وتعالٍ في رؤيته للأمور، فلا غروّ إن وجدنا النحات لما ينخرط في عمله يترفع عن الحضيض الذي تعيشه العامة، (وعندما يحاول أن يبدأ النحت في الكتلة الصَّماء، من جديد، يرتجُّ كلُّ شيء في هذا المكان الصغير تمة انفجار جديد أشبه ما يكون بزلزال عنيف هز أركان المدينة العتيقة، وسراديبها السرّيّة (...) طرف يقول إنّها ثورة ، والطرف الآخر يصفها بالأزمة والفتنة، وطرف ثالث يعتنقها جهادا، وآخر يعدها احتلالا، وأطراف أخرى تؤّكد أنها: فوضى) 12 وعبد السلام وسط كل هذه الفوضى يبتعد عن الخطاب المباشر، وعن مختلف الفنون ويختار فناً تعبيريا تلقائيا يخاطب اللاشعور و( عبد السلام نفسه اشتُهر بتقديمه عدّة أدوار مهمّة مع فرقة المسرح الجامعي، ولكنّه اختصّ بعد تخرّجه بالنحت على الحجر والرسم السورياليّ فوق الواقعيّ، لاعتماد ذلك على التلقائية الانفعالية، والتعبير عن الأفكار اللاشعوريّة بالقفز فوق الواقع، واستنهاض العقل الباطنيّ ، وهذا ما يناسب شخصيّته، وحالاته النفسيّة، غير المستقرّة، على نمط "سلفادور دالي"، "فلاديمير كوش" الصفحة 13.
إن الأعمال العظيمة تكون وراءها مآسي عظيمة، فلا شيء يسمو بنا إلى العظمة مثل الألم على حد تعبير دي موسيه فما عاشه عبد السلام من مآسي بقتل والده قهرا، وقتل البتول بعد اغتصابها والتنكيل بجثتها ورفض توظيفه في الوظيفة العمومية وخيانة محبوبته.... كل ذلك وغيره كان له كبير الأثر على نفسيته فهو يتذكّرُ بألم شديد ليلة سقوط البتول المريع، )صورة بنت الحارة الصبيّة "البتول"، وهي تتقلّص على مرافئ العار ككتلة بشريّة متحرّكة، تتكور في زاوية الغرفة نفسها التي شهدت حالات اغتصابها اللعين، تتنفس بصعوبة، تبكي، تنتحب، تحاول أن تخفي عُريها المدنَّس، ودماءها المتخثّرة تحت ثرى ساقَيها، وثيابها الداخليّة البيضاء، وتلك الكدمات الموشومة على وجهها المصدوم، وآثار الشذوذ الجنسيّ الوحشيّ الذي تعرّضت له، بعد أن تمّ اغتصابها مرارا وتكرارا، بوحشيّة همجيّة) الصفحة12. يحاول أن يفجر ما يختلجه صدره في فنه لإخراج التمثال في مشحونا بالعواطف ( تتوالى الضربات المتتالية من يد عبدالسلام الرشيقة، تُظهر ملامح الخصب، والانبعاث من الرماد لجسد تمثال "الحرية"، يتفرّس في جناحَي النسر وأطرافه المُجنَّحة، يتلمّس وجهه الذي بُعِثَ من الرخام البازلتيّ، ويماثل وجه البتول الملائكيّ، أجل، هو نسر ضخم وله وجه امرأة تخرج من الرماد، تحضن أولادها بخوف ممزوج بالحنان، تظل لهم بجناحيها الضخمين، تُرضعهم من حليب ثدييها اللذين يشبهان قلعة المدينة.) الصفحة.11
لكن مشكلة الفنان في العالم العربي هو غياب الدعم، وتنكر القريب، وعدم تقدير موهبته فعلى الرغم من اعتراف الأم بموهبة ابنها لكن الفن يبقى في نظرها لا يُطعم خبزا: (تعرف أن الرسم والنحت فنّ جميل يتمتّع فيه ابنها، ويعدّه فضيلة عمره كلّه، وقد ضحّى من أجل ذلك كثيراً، ولكن: ما هذا الفنّ الذي لا يُطْعِمُ خبزا؟" سألت نفسها، ولعلّها أجابت: "إيييه... هم أفقر خلق الله"، بل إنّها أردفت: يا لحظّك التعس يا عبد السلام...! الصفحة 265
ويبقى وحده الفنان يحمل مأساته، يفجر طاقاته في الفن، قد يتفنن ويثقن عدة فنون لكن يجد نفسه في الأخير عاطلا، فرغم كون عبد السلام فنانا عصاميا يمتح من الماضي ويجمع بين الرسم والتمثيل والنحت فكل ذلك لم يشفع له وظل متسكعا عاطلا ، لما فكر في كتابة مذكراته لم يجد لها عنوانا أنسب من (مذكرات فنان متسكع) مقتنعا بأن " اختيارات الماضي، وتشعّبها، من التمثيل إلى الرسم، ومن ثمّ إلى النحت، هي التي جعلته عاطلا عن العمل) الصفحة 135 ، على الرغم من أن الكل يعترف بموهبته والناس يعجبون بأعماله، فتلك الأعمال لا تحقق له عيشا كريما، ( كانت منحوتاته دائما تتشبّع بصور الانعتاق من العبوديّة، وكان يصوِّر بخطوطه حجم الألم، الذي يشعر به الناس، من جراء الفساد المتفاقم، وبما أنّه فنّان من النوع المغامر، فقد اقتنيت بعض منحوتاته، وعرض بعضها في"الحديقة العامّة"، وفي"المتحف الوطني"، ما وهبه نظرات الاحترام المجتمعيّة، وأتاح له بعض التقدير من الأصدقاء المقرَّبين، لكن ذلك، لم يحقّق له ريعا مادّيا مناسبا، فظلَّ في ركن المفلسين الدائمين، الباحثين عن ليلة مجنونة تنسيهم هموم الحياة، ومعاناتهم القاتلة.) الصفحة. 134، ولعل ما يزيد الفنان معاناةً رؤيتُه التافهين يتسلقون أعلى المراتب، والمسؤولون يفضلون من هو أقل كفاءة على الفنان المتعدد المواهب لذلك لن ينسى عبد السلام أبدا يوم ( تخرّجه في معهد الفنون الجميلة، وأسعفه الحظّ أن يعمل بعقد مؤقت "مُخرجا"، مساعدا فنّيا للصحيفة الوحيدة الصادرة في المدينة، وقد نشر عدة كاريكَاتورات ... ورغم أنّه أثبت جدارته في بعض التحقيقات المصوَّرة، وفي القليل من المقالات والدراسات الاجتماعيّة والأثريّة غير السياسيّة، خاصّة عن الثورة الفكريّة، والزراعيّة، إلّا أنّه لم يستطع أن يحصل على موافقة الدولة في وطنه، لا في التثبيت ولا التعيين بوظيفة دائمة، ولا حتّى في شرف الحصول على عضويّة اتّحاد الصحفيين، أو الفنّانين التشكيليّين، ولهذا، ظلَّ متسكّعا في دائرته، واستمرّ عضوا بارزا في شلّة الصعاليك الشرقيين! تقدّم عدّة مرّات للقبول في وظائف متعدّدة، مختلفة، مقبولة، وغير مُرضية، ولكن من المؤلم أنّ كثيرا من الطلبة الذين تقلّ درجاتهم عنه قُبِلوا، وحصلوا على الوظائف المهمّة، ومن المفارقات أنّه نفسه، كان يساعد زميلا له في دراسته، وفي رسوماته، التي كان يمزّقها له كثيراً ويطلب منه إعادة المحاولة، ويرسم له خطوطها البيانيّة، هو نفسه، هذا الطالب الكسول، الوصوليّ ، الطفيليّ ، قبِل فورا، وأصبح مديرا للقسم الذي درسا فيه، وتخرّجا منه معاً ولكن الفارق أنّ الأوّل مدعوم من أحد رجالات النخبة، والثاني لا دعم غير موهبته وإبداعه، لكنهما لا يكفيان للحصول على ما يستحقّ المواطن الشريف! والمؤلم أكثر، أنّ هذا المدير المدعوم قد رفض الطلب الأخير، ويقولون بسخرية لاذعة إنّه مزق الطلب بيديه، ورماه في سلّة المهملات...) الصفحة 133
في مقابل هذا الجحود من أبناء جلدته يحظى الفنان العربي بالاعتراف من الأجنبي فقد نحت عبد السلام تمثالا صغيرا (من الحجر الأسود الناريّ، لجسد نسر سوري له وجه امرأة جميلة، وجناحان واسعان، وفي كلّ جناح يتعلَّق طفل رضيع، وتظهر حفّاضات الأطفال كأنّها سلال من عنب، وأوراق الكرمة، وتزيِّن رؤوسهم أكاليل الغار، وأزهار الياسمين، هو لا ينسى، وكيف له أن ينسى؟ أنّ هذا التمثال قد نال إعجاب السائحة "سوزانا"، الكندية، حين رأته معروضا في سوق "خان الشونة"، الأثريّ، في معرض الفنان "سهيل"، الخاصّ ببيع اللوحات الفنّيّة، والقطع الأثريّة غير الممنوعة، والألبسة الفلكلوريّة الشعبيّة، والهدايا التي تجسِّد تاريخ المدينة، ماضيها وحاضرها، خاصّة قلعتها الشامخة) الصفحة 175 فأخذ التمثال لبها وقالت:(إنّه تمثال تعبيريّ رائع، يستحقّ أن يُعْرَض في أرقى المتاحف في العالم). وسلكت كل السبل الممكنة لاقتنائه دون أن تتمكن من الحصول عليه رغم استعدادها لدفع أي مبلغ، ولما فشلت في الحصول عليه ، ألحت على صاحب المعرض ليعرفها على الفنان الذي نحتت أنامله هذه التحفة النادرة... ورحلت دون أن تحصل على المنحوتة رغم كل ما قدمته لعبد السلام من هدايا (عطرا من شذى الياسمين الحلبي الطبيعي) وتقديم جسدها له في ليلة حمراء (هي الليلة الحميميّة الأولى، والأخيرة، إذْ إنّه عندما استيقظ صباحا، وجد رسالة خطّيّة مكتوبة باللغة العربيّة، تخبره فيها أنّها امرأة ولدت في حلب1446 م، لأبوين يهوديّين) الصفحة 176. وقد ظلت ذكرى ذلك التمثال في ذاكرتها حتى لما علمت ما حل بحلب من فوضى الحرب "بكت دما وذرفت دموعا، لِما رأته من مجازر رهيبة تحدث في البلد، ووصفت الخراب بيوم القيامة،) وراسلت عبد السلام (واستسمحته عذرا أن يقبل الهجرة إلى كندا، أو أيّ بلد أو روبي آخر، وأنّها على استعداد تامّ للمساهمة، والوقوف بكلّ ما تملك من أجله،) الصفحة. 177
وإذا كانت الحيوانات من القطط والكلاب قد تفاعلت مع بشاعة وشراسة الحرب التي اندلعت في حي البندرة فألفينا (الكلب المرقَّط "ميمون"، أو كما يناديه أهل الحيّ "ميمو"، يلهث، وهو يقفز من هنا، إلى هناك، ويساعد بعض المصابين، ولكن المفاجأة الصادمة، المثيرة للانتباه، حين ركض بأقدامه الأربع، بسرعة مذهلة، واخترق دار "البتول"، راح يعوي بصوت قويّ، مشيرا إلى أمر ما قد حدث هنا..! الصفحة.16. فالفنان الذي كان يزهد في الحياة ويكفيه أن يجلس في مجلس فني ليشعر أن الحياة حيزت له بكاملها (يحسُّ أنّ العالم كلّه يجلس معه، تجوب عيناه حول ركن مُحاط بلوحتين مؤطّرتين، اللوحة الأولى بإطارها المذهَّب، وبداخلها مفتاح دار حديديّ صدئ، ذو حجم كبير، معلّقة في وسط الغرفة، واللوحة الثانية، مماثلة في إطارها، ولكنّها تحتفي بمجسّم عتيق للمسجد الأقصى ) الصفحة200 أكيد أن ذلك الفنان برِقّة أحاسيسه ودقة رؤيته سيكون له تصور مختلف عن العامة، وهو يرى الخراب يحل في كل مكان بالمدينة لا يميز بين المرافق المدنية ( أكبر سوق مسقوف في العالم يحترق وَيُهَدَّم! المساجد والكُنُس والمقامات والأوابد تُدَمَّر! أبوابها وحماماتها وخاناتها ومزاراتها صارت حُطاما! أبيحت بيوتها، وذلّت نسائها...) الصفحة.18 (حتّى المستشفيات، والصيدليّات، ومدارس الأطفال، ودور العجزة، والمقابر، لم تسلم كلّها من أنياب هذه الحرب الظالمة.) الصفحة .22 لدرجة أضحى التفجير والتخريب صورة يومية اعتيادية وهو ما يتطلب رزانة وهدوءً أكبر... هكذا كان عبد السلام" يسمع (عدّةَ انفجارات مُدَوّية، مرّة أخرى، وعاشرة بعد الألف، تهزُّ المدينة، كأنّها بداية يوم القيامة، لكنّه لا يهتزّ، ولا يشعر بالخوف، ولا يستطيع أن يميز صوت الانفجارات، من تثاؤبات السور، وزفراته الزلزاليّة، فقد صارت هذه الأصوات عادة يوميّة، اعتياديّة...) الصفحة18، فيكون لذلك أكبر الأثر في دواخله و( يحسّ بدوار في رأسه... الدنيا حوله تدور... يدور التمثال... يدور الكرسي الخيزرانيّ العتيق به... الكهف يدور... كلّ شيء يتناسل دوائر حمراء بلون الدم... كلّ دائرة في ناظريه تتحوّل إلى ألف زوبعة، وألف دمعة، وألف دائرة، وألف عَلَم يرفع، وألف نشيد يصدح، وألف شعار ينبح، والدائرة ما زالت تدور... تدو..ر" الصفحة ص 21 ولا يخرجه من هذا الدوران اللامنتهي سوى الحلم بعودة السلم والتجوال في المعارض الفنية، يرى نفسه في الحلم يتجوًّل في قاعة المعرض المقام في متحف حلب الوطني، قرب شارع "بارون"، يتفرّس في تلك المنحوتات المختلفة، واللوحات التشكيليّة المتنوّعة، والجناح الخاصّ لبيع الكتب التراثيّة والدينيّة، الأدبيّة والعلميّة، يشعر بسعادة لا توصَف، وبفخر مدهش. المعرض يعجّ بالزائرين، والسائحين الأجانب، الفنّانين والصحفيّين والنقّاد، يتوقّف أمام كتلة نحتيّة رائعة، يتأمّلها، يعقد حاجبيه، تزيغ عيناه قليلا ا، يتفرّس فيها بحدّة، يدور حولها، يدور جمع من المعجبين بها، يشيرون أمامه إلى معانيها، يتقدّمون إليه بتقدير، يشدّون على يديه، يطلبون منه التوقيع على دفاتر مذكّراتهم الملوّنة بجماليّة مدهش) الصفحة 117..
لكنه يصحو من حلمه المؤجَّل على واقع مرير يعمه الخراب واغتصاب الجثث لا يملك إلا أن ( يمسح عينيه بيده، يمتصُّ لسانه الجافّ ، يتأوّه بحسرة وأسى، يدركُ أن الحلم المؤجّل قد اختفى. وقد تغير كل شيء، (إلا الكتلة الحجريّة التي رآها في حلمه، يجدها ساكنة في مكانها، لم تتحرّك من موطنها الأصلي، وما زالت على صدر الطاولة الصامدة.) الصفحة 117. وكأن الهدف والحلم المنشود هو نحت الصخرة وبث الحياة فيها من خلال تمثال يحيل الصخرة الصماء عملا فنيا تشع منه الحياة وبعث الأمل في مستقبل أحسن، مقتنع حتى الثمالة أن رسالة الفنان تحرير العقول، إنارة الطريق وأن الفنان لا يمكن أن يكون قاتلا ولو عاش وسط الحروب، لذلك لما قدَّم يحيى مسدسا لعبد السلام وطلب منه الانتقام من مغتصبي البتول وقاتلي والده يقول السارد (كان هناك شيء خفيّ في عقله يحدّثه: إنّك خُلِقْتَ فناناً، وليست مهمّتك القتل) الصفحة 54
وسط الحرب والدمار لم يكن لعبد السلام إلا الفن وسيلة تخفف عنه بعض ما أصابه من توالي الخيبات والرزايا، وكأن المحن كانت تزيده جَلَداً، صبرا وقوة تحمل يقول السارد (ولعلّ ما حدث، كان دافعا له دائما لكي يثبت أحقّيّته فيما يصبو إليه، ويحلم به، وقد وفَّر له التحدّي، المزيد من المغامرات، والاشتراك في عدّة معارض فنّيّة متنوّعة، إذْ وجد نفسه أخيرا، وأدرك أنّ النحت في الحجر يشبه حياته تماما...) الصفحة.134.
إن الصخر على صلابته - في نظر الفنان- أرحم من قلوب البشر، فإذا كانت القلوب قد تحجرت، فالصخر بين أنامل الفنان مطواع قادر على التجاوب يتسع كل الأحاسيس... (كانت منحوتاته دائما تتشبّع بصور الانعتاق من العبوديّة، وكان يصوِّر بخطوطه حجم الألم، الذي يشعر به الناس، من جراء الفساد المتفاقم، وبما أنّه فنّان من النوع المغامر، فقد اقتنيت بعض منحوتاته، وعرض بعضها في"الحديقة العامّة" والمتحف الوطني ) وكان الفن مفرج كربه، لا يقلقه شيء أكثر من عدم اكتراث الآخرين بالفن، فلكما كان (يحسّ باكتئاب شديد، وبتوتّر أشدّ حين كان، قبل أن تبدأ الحرب، يهمّ بالذهاب يوميا إلى مقهى "الثقافة" ليجلس مع أصدقائه الأدباء والكتَّاب والنقّاد، كان يحمل بعض رسوماته، أو لوحاته ذوات الحجم الصغير، أملا أن تنال إعجاب أحد ما...) الصفحة 136.
أن تكون فنانا قدرٌ وليس اختياراً، لذلك لما كانت تلومه والدته على المسار الذي اختاره في حياته وتقوله له (عليكَ ألّا تيأس... ابحث عن وظيفة ما، أنا تعبت، ولم أعد أستطيع الاستمرار هكذا) كان يرد عليها بقوله:
- سامحيني يا أمّي، صرتُ متسكّعا، ولكن، ليس باختياري... الصفحة 136.
لذلك أضحى الفن زاده، وهواءه الذي يتنفّسه، صحيح أنه أكسبه بعض الاحترام والتقدير في أعين العامة و(وهبه نظرات الاحترام المجتمعيّة، وأتاح له بعض التقدير من الأصدقاء المقرَّبين، لكن ذلك، لم يحقّق له ريعا مادّيا مناسبا، فظلَّ في ركن المفلسين الدائمين، الباحثين عن ليلة مجنونة تنسيهم هموم الحياة، ومعاناتهم القاتلة.) الصفحة 134، فعاش حياة ضنكى، يجترّ مرارتها في واقع يعيش أزمة قيم، اختلت مقاييسه لا قيمة فيه للفن والفنانين ما دامت (الحياة اليوم صارت، وللأسف، لا تُقاس بما يملكه المرء من العلم والثقافة، بل بما يملكه من رصيد في البنوك، وأين يعيش؟! وما هو نوع سيّا رته الجديدة؟!..) فيجلس يُسائِل نفسه:(ماذا تفيده تلك اللوحات والمنحوتات التي أمضى معها أيّاما طوالا من الأرق والتعب؟ وماذا ستقدّم له؟ لا شيء. هكذا يجيب نفسه، بل إنّ اختيارات الماضي، وتشعّبها، من التمثيل إلى الرسم، ومن ثمّ إلى النحت، هي التي جعلته عاطلا عن العمل..) الصفحة 135... لكن رغم ذلك فقد ظل مقتنعا أن الإزميل الحديدي والصخر يفهمانه أكثر من البشر: (يُمسك عبد السلام بالإزميل مرّة أخرى، يحسّ أنّ هذه الأداة الفولاذيّة تفهم مشاعره أكثر من أيّ روح أخرى، وراح يلاطف تمثال الحرّيّة بلمساته قبل الأخيرة، فجأة) الصفحة.299،
أمام عشقه للتشكيل كان عبد السلام يمارس فنه في هالة من الطقوس تسمو به فوق الواقع، وتجعله لا يحس بما يقع حوله فالانفجارات حوله تهز البيت وهو لا يهتم ويواصل نحث تمثاله (لم يتوقف عبد السلام عن إكمال مشروعه، بل يستمرّ بنحت الكتلة الصّمّاء، يريدها أن تنطق، أن تصيح، أن تهتف، تغنّي، يحسُّ أنّ أذنيه قد أصيبتا بالصمم، يطرق بإزميله على جناح التمثال، يطرق، يطرق، يهتف: "عليك أن تطير وترفرف عاليا"، يحفر بسرعة، بسرعة، تتسارع أصوات الانفجارات والرصاص اللئيم) الصفحة 299. وهو منهمك في إتمام تحفته أمه تخبره بتفجير البيت وهو أمام الفن مسلوب الإرادة، تعلقه بالنحت يربو على تعلقه بوالدته، كل الطرق إلا الفن غير سالكة، وكل الأبواب سوى النحت والرسم مواربة فنراه وقد: (استمرّ في النحت فوق الحجر، بل أراد أن يقول لها:
- سامحيني يا أمّي، ما يحدث معي، كان أقوى منّي، ومن حبّي لكِ، لم يكن أمامي غير أن أرسم، أنحت، ولم أستطع فعل أيّ شيء آخر، لقد انتهيت.) الصفحة 299
قد تنتابه لحظات يأس ويعلن ندمه على الوقت الذي أضاعه في فن لا يشبع معدة جائع، ولا يطفئ عطش ضامئ (إنّه يعترف، الآن، وللمرّة الأولى في عمره، أنّه قد أضاع تلك السنوات في الهراء، وأيقن أن المثاليّة والرومانسيّة، والهرطقة الفارغة، والانتظارات الحالمة، لا نفع لها في هذا العالم المجنون. لم يشعر بالمزيد من الإلهام، والحماسة في إتمام نحت تمثال المرأة "الحرّيّة"، الكاملة، التي تعني له الخِصب، والتضحية، والعطاء، ولا في النوم باكرا، ولهذا، استرخى يفكّر في نفسه، وفي مستقبله، وفيما يحدث في المدينة، وفي البلد كلّها، يفكّر بوالده) الصفحة.138
ومن تم كان اختيار النحت اختيارا رمزيا لهوية بلد، أهله فنانون بالفطرة، وكل شيء فيه له قيمة نادرة، حتى الصخر قابل لأن يصير تحفاً نادرةً، تلك هي سمة أقدم مدينة عامرة إلى اليوم ويكفي التأمل في ما يمثله التمثال (حدد) ( الإله الآموري الآرامي: "بعل" عشتار إله المطر والحرّيّة، وما ترمز إليه الأشياء التي حملها: (حيث يُمسك بيده اليسرى سنابل القمح، يتوّج رأسه بها، ويرفع باليد اليمنى شعلة الحرّيّة الساطعة) إنه مصدر الخير ورمز التحر ، ومصدر إلهام ، منه تم استلهام تمثال الحرية الذي أهدتها فرنسا للولايات المتحدة كواحد من أهم المنحوتات المعاصرة، ما أن نظر إليه عبد السلام حتى ابتسم بثقة و(هزَّ رأسه، أراد أن يقول لأبراهام أن فكرة تمثال الحرّيّة في أمريكا مأخوذة ومقتبسة من فكرة تمثال إله حلب القديم، وقبل خمسة آلاف عام، بل أراد أن يشرح له أنّ زوجة "حدد"، هي عشتار Ishtar، سيدة النجوم، والحبّ ، والخصب، ولكنّه غبَّ تفسيراته، وهو يعلم أنّ هذا التمثال يمثّل تاريخ المدينة القديم، ويحكي عن حضارتها، ونزوعها إلى الحياة الزراعيّة، والعمل، والسلام، وتذكّر مقولة: "حدد"، المشهورة عالميّا، التي تعرفها، وتوثّقها، كتب التاريخ كلها: "سورية بلدكم، أينما كنتم، وهذا حقكم، فحطِّم سيفكَ، وتناول معولك، واتبعني لنزرع السلام والمحبّة: أنتَ مركز الأرض) الصفحة.281
هي حلب المتحف المفتوح، الضارب في العراقة والقدم، ووسط كل ذلك الكم الهائل من المنحوتات و القطع الأثرية والأختام والتيجان الحجريّة والمخطوطات، يبقى تمثال الإلٰه: "حدد"، إلٰه الحرب والمطر والعواصف والبروق، الذي يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، رمز العطاء والخير (تذكر الأساطير القديمة أنّه كان يتجوّل على عربته في السماء، ويجلد الغمام بالسوط، لتتساقط الأمطار، وفي لحظة الغضب، يزمجر ثوره مسبّبا صوت الرعد الذي يهزُّ الدنيا، ويزلزلها) الصفحة 187... كسب تلك المرزية مما نسجته الأسطورة حوله ولجماليته ودقة نحته وما يختزله من معاني متناقضة تجمع بين القوة واللين، الرحمة البأس كل من يشاهده يقف مشدوها (يتفرّس قرون الإلٰه الآراميّ التي هي على شكل قمر وسيف، وقد رفع في يده اليمنى فأسا، وفي اليسرى قبضة سنابل مثمرة، وتلك السيوف القديمة المصنوعة من الفولاذ ونترات الحديد التي يتركها البرق الشديد في تراب المدينة، ويمكن لها أن تشقّ الهواء، وقد نقشت عليها كلمات تمجد الإلٰه: "إلٰهي، أعِنّا ليفتك سيفكَ بالأعداء) الصفحة 187
أن رمزية التمثال تتجاوز صورته كمنحوتة صخرية إلى أيقونة مشحونة بدلالات ومعاني التسامح والحرّيّة لذلك تعد سرقته وتهريبه ونسبته لأي بلد آخر أو تاريخ آخر جريمة لا تغتفر، تزييفاً للحقائق والتاريخ، وعندما تنشغل العامة بالحرب يكون الفنان صرخة مدوية في الأعماق تصيح: (إنّهم يزيّفون كلّ شيء يا عبد السلام، يسرقون تاريخنا القديم، ويعبثون فيه، لا مشكلة عندهم في تزوير الحقائق، بل المهمّ هو صناعة تاريخ لهم، حتّى لو كان مزيّفا.) الصفحة281،
لكل ذلك وغيره، ما أن شعر النحات عبد السلام بالخطر يهدد الفن والبلد حتى انبرى له بكل ما أوتي من قوة وكان على أتم الاستعداد لتقديم نفسه فداء للفن والوطن والتاريخ، هكذا لما اكتشف تورطه مع اليهود وقد أحكموا الربقة على رقبته، وصوروه في وضعيات مخلة وتأكد من ضياع المرأة التي أحبها وكان يفكر في الزواج منها ولو تطلب الأمر (الزواج بالطريقة الوحيدة الممكنة، ألا وهي الاختطاف، أو كما تقول لنفسها: "الزواج خطفا) وورطوه في تهريب تمثال أثري خارج حلب وأعدو تفاصيل الخطة ووعدوه بحياة أفضل، حتى وقف بالمرصاد ضد تهريب الآثار لما لها من آثار سلبية على تاريخ الفن بالبلد وتشويه للتاريخ، كانت اللحظة عصيبة تتطلب ربطة جأش أمام إتقان أبراهام حياكة تفاصيل وخيوط العملية، وتأكد من أن عبد السلام سينفد التعليمات كما هي... تظاهر السلام بالهدوء وقد وجد نفسه وسط (صورٍ متنوّعة لقطع أثريّة نادرة، ومدفن حجري منقوش بكتابات قديمة. يرى صورة: "روليف"، جدارية تمثّل رامي سهام يمتطي عربته، وهو من القرن التاسع قبل الميلاد، وصورة أخرى لتمثال رجل يحمل نعجة، يتأكّد أنّها منحوتة من الحجر الجيريّ، ذلك أنّها مكتوبة باللغة الحثّيّة، يتوقّف مليّا أمام صورة مسلّة حجريّة تمثّل المشهد النموذجيّ لإلٰه الطقس في الفنّ السوريّ، وتتألّف المسلّة من مشهد واحد يضم الإلٰه "حدد"، إلٰه البرق والعواصف والأمطار، والذي كان ملك العالم، في مشهد جانبيّ، حيث يُمسك بيده اليسرى شوكة ثلاثيّة، ويرفع بيده اليمنى الفأس، وهو واقف في حالة حركة على أحد أشهر رموزه وهو حيوان الثور، وتعلو الشمس المجنَّحة رأسه. )) الصفحة 81 ... عبد السلام وسط كنز ثمين وتماثيل يأسر جمالها من يشاهدها (يحسُّ أن "المشرَّط"، قد فقد شيئا من توازنه، أمام روعة التمثال، وها هو ذا يتلمّسه مثارا مندهشا، يقول بذهول: - تحفة...واللهِ تحفة...) الصفحة 157
وابرهام يشرح له (بخباثة وذكاء، العمليّة السرّيّة الأخيرة، وكيف سينقلون بعض القطع الأثريّة المهمّة، إلى خارج البلد، ويبيّن له أهمّيّتها ص 82، عملية تهريب الآثار تشتغل فيها عصابات متمرسة تتقن عملها ويصعب على عبد السلام الخروج من المأزق الذي وضعه فيه السارد، وقد سبق لهم قتل الحارس العجوز أبي بكري بدم بارد وهربوا تماثيل نادرة وأحكموا (ربط التمثال، بأجهزة خاصّة معدّة للنقل المريح، يحملون عديدا من القطع الأثريّة، والأختام، والتيجان، والمخطوطات.) الصفحة 159
في الليلة الموعودة يكشف السارد عن سبب اختيار نحّاتا بطلا للرواية فنجد أبراهام يطلب من عبد السلام تهريب التمثال ويقول له:
- أنتَ نحّات عظيم يا عبد السلام، ولم يُقدِّر أحد فنَّك الرائع، ولهذا، يكمن نجاحك في نقل هذا التمثال، وإخراجه من هنا.
ثمّ أردف مفسِّرا:
- لا بأس أن تدّعي أنّكَ أنتَ مَن نحته، أي أنّه ليس أثرا قديما، هذا إنْ شكَّ أحد فيه أثناء عملية النقل، أو ظهر حاجزٌ مفاجئ، أو جماعة ليست ممَّن نعتمدُ عليهم، وبعد ذلك، ستكون حياتكَ هي الأرقى بيننا.) الصفحة 283
يصطنع عبد السلام الهدوء بعفوية واضحة (اطمئنّ، سيكون كلّ شيء كما تريد، لا مشكلة في ذلك بعد الآن.) الصفحة 283 وازداد عبد السلام تباثا (حين وقفا معا أمام كتلة التمثال الثقيلة، وبدءا بحمله، ونقله، لم يفقدا توازنهما، بل كان الظلام سيّد الحركة، والصوت، والانطلاق نحو الممرّات المعتمة، بكلّ خفّة، وعناية، وسكون مخيف.) الصفحة 285. وبمجرد ما أطمأن عبد السلام على سلامة التمثال، وحسن تثبيته، نقض العهد، ونكث بالاتفاق وانطلق (بخفّة متسابق محترِف، انطلق خارج النصّ، عفوا، خارج الأجندة المحدّدة، وتوجّه بسرعة جنونية نحو مخرج الحارة الشرقي. في تلك اللحظة بالذات، وقبل أن يطلق القنَّاص رصاصته نحو رأس عبد السلام، وقد أدرك أنّه قد حنث بالعهد والحليب والولاء. أطلق يحيى رصاصاته نحو مخبأ القنَّاص، تعالى الاشتباك المتبادَل بينهما، فيما تابع عبد السلام القيادة،) وبدل أن يسلك الطريق المتفق عليه نحو الهدف المحدد (عبر مدخل الحارة، ومن ثمّ اجتاز شارع "الخندق"، الطويل، بجانب سور المدينة العظيم، وحين عكف نحو ساعة: "باب الفرج"، حاول بعض حرّاس الحواجز أن يوقفوه، ولكنّه لم يمتثل للأمر، فما كان منهم إلّا أنْ وجّهوا رشاشاتهم الأوتوماتيكيّة نحوه، و راحوا يطلقون رصاصاتهم بغزارة، أصابوه في البداية بكتفه الأيمن، ثمّ الأيسر، ولكنّه لم يبالِ لإصاباته، ولم يشعر بألم، بل أحسّ أن شيئا ساخنا يسيل من صدره نحو قدميه، وبالمثل، من ساقيه نحو أخمصَي قدميه، وبشيء من الدوار، استمرّ في القيادة حتّى نهاية الشارع، حينذاك انعطف يساراً، مخالفا إشارات المرور، توجّه بالشاحنة نحو مدخل "المتحف الوطنيّ"، العريض، ولم يأبَهْ لصراخ حرّاس المتحف، وأزيز رشّاشاتهم، بل اجتاز المدخل بصعوبة قصوى، وأمام درج المتحف توقّف، توقّف، تو.. قّاااا ف. في البداية، اختبأ حرَّاس المتحف ظنّا منهم أنّ الشاحنة مفخّخة، وأنّ الذي يقودها ما هو غير إرهابيّ متطرّف، وأنّها لا بدّ أن تنفجر، وتحوِّل متحف المدينة، وما يحتويه، إلى خراب، ودمار شامل، إلّا أنّهم، حين رأوا بأمّ أعينهم، كيف فتح هذا الإرهابيّ الطيِّب باب الشاحنة الأماميّ، وسقط على الأرض، مضرّجا بوطنه، نازفا، مشيرا بإصبعه إلى النعش، لحظتها، اقتربوا منه، نظر بعضهم إليه، وكأنّه يقرأ كتابا، أو يشاهد لوحة غريبة، وقبل أن يغمض عينيه، سمع صرخة مدوّية من أحد الحرَّاس:
- سيّدي! سيّدي! في الصندوق تمثال!) الصفحة 313. لتنتهي الرواية نهاية مأساوية تقطر رومانسية وتقدم درسا في الوطنية والتضحية والإحساس بالمسؤولية الملقاة على الأكتاف، ولا يمكن أن يقدمها إلا فنان يقدّر الفن ويعرف قيمة الآثار وخطورة تهريبها هكذا يسدل السارد ستار روايته والبطل عبد السلام يترنح (فوق دمه الساخن، ونزيفه، وقد انهار جسده، وتوقّف الزمن في خفقات فؤاده، ولومضة خاطفة، تهيأت له البتول. ها هي ذي تقفز أمامه بفرح، تطير كفراشة، ترتدي ثوب زفافها الأبيض، تنظر إليه بمحبّة، وشوق، يمدُّ يده إليها، تشير له أن يطير مثلها، فوق حقول القمح، وبساتين الورد، فوق قلعة المدينة، أسواقها، ودخان مصانعها، يبتسم، يتدفّق الدم من فمه ساخنا، نديّا.)) الصفحة 313.
يستنتج إذن من خلال مقاربة حضور فن النحت في رواية قيامة (البتول الأناشيد السرية)) أنها رواية واقعية حاولت تصوير الواقع السوري وما يعيشه السوريون غداة تفجير "الربيع العربي" وتبعاته من الحروب وما يرفقها من هتك للحقوق وانتشار الجريمة والاغتصاب الذي لم يسلم منه الأطفال الأحياء بل وحتى الأموات فألفينا الجقجوف ابن زيزفونة الداعرة، لا يميز في الاغتصاب بين (طفلة صغيرة لم تتعدَّ العاشرة من العمر) الصفحة 33 وبين جثة امرأة ثلاثينية: " يستلقي عاريا تماما، فوق جثّة المتوفاة، يجد متعة لا توصف في ذلك، يتهيّأ له أنّ الجثة تستسلم له، لا ترفضه، ولا تكرهه مثل الأخريات، يحسُّ أنّه يعيش معها وجها لوجه، وأنّها لا تخاف منه، أو لعلّها تعشقه، ولهذا، لا تمانعه في أيّ شيء يشتهيه، وها هي ذي تلبي رغباته الدفينة التي ليس لها حدود) الصفحة 33 ، لا أحد يكترث لعشرات الجثث من الصبايا المرميّة على ضفة نهر المدينة، بعد أن اغتصبنَّ وقتلن، ورمين كالحيوانات الميتة، تحت أو فوق تلال القمامة، والدُّور المهدَّمة، الصفحة 24، فكان الفن والفنان وحدهما القادرين على التعبير عن حجم المعاناة ، دون أن تكتف الرواية بالانفتاح نحت الصخر بل استغلت النحت عامة للتعريف بهوية بلد بكامله فنقلت القارئ إلى منحوتات الجواهر ومنحوتات الحديد وصقل المعادن التي اشتهرت بها سوريا فطافت بالقارئ في معارض خاصة يقول السارد في وصف أحد المعارض: (كان المعرض يحتوي على سيوف فضّيّة ونحاسيّة ومذهبّة متنوّعة، منها ما هو معقوف، ومنها ما هو مسنّن، مرصّعة بأحجار كريمة، رماح وسهام، أقواس وحِراب، حدوات وأربطة خيل. تفرّس فيها عبد السلام مليّا، إنّها من الصناعات اليدويّة الجديدة التي تتوفّر في سوق "النحّاسين"، وتتكاثر أهمّيّتها في احتفالات الأثرياء، ناهيك عن الصواني الملكيّة، والأواني، والكؤوس، والحلقات) الصفحة 184 كما كشفت الرواية بعض كنوز حلب المتجلية في العمارة ، أو المختبئة في الأقبية والكهوف يصف السارد يعض محتويات عرفة في كهف (في غرفة الكهف، تدقّق في موجوداتها: "العجيبة، الغريبة"، كلّ ما فيها لم يكن متوقَّعا، تماثيل حجريّة صغيرة، تمثال لامرأة عارية تحاول أن تطير بجناحيها، وتمثال آخر يبدو أنّه لإمبراطور رومانيّ، أيقونات مختلفة، مخطوطات تلموديّة، فينيقيّة، إغريقيّة) الصفحة. 223 وحتى تؤدي تلك المنحوتات وظيفتها الروائية فقد تم اخيارها بعناية وتقديمها للمتلقي بطريقة تحيل في معظمها على الحرية والانعتاق (تمثال لامرأة عارية تحاول أن تطير بجناحيها) ويكف يتأمل الوصف الذي تم به تقديم تمثال الإله حدد (قرون الإلٰه الآراميّ التي هي على شكل قمر وسيف، وقد رفع في يده اليمنى فأسا، وفي اليسرى قبضة سنابل مثمرة)....فكانت التماثيل لآلهة الحرب والمطر والعواصف والبروق، رمزا للحبّ ، والخصب وهذه القيم وحدها المفتاح السحري القادر على مساعدة السوريين لتجاوز الأزمة التي يمر منها سوريا ، والتي للأسف ضاعت من البشر، وظلت تلك التماثيل ترمز إليها.....