التدريس مهنة الضغوطات النفسية



✍ ذ. المصطفى مورادي

التدريس مهنة صعبة وشاقة وذات تأثيرات فورية خطيرة على الصحة النفسية للمدرسين، وهو الأمر الذي يسهُل رصده بناء على عدة مؤشرات، منها تزايد عدد المدرسين الذين يتم إعفاؤهم من مهامهم كل سنة، نتيجة تدهور حالتهم العصبية والنفسية، ثم تزايد عدد المدرسين المصابين بأمراض فيزيولوجية مزمنة، نتيجة لأسباب نفسية، كالضغط والسكري وباقي الأمراض الأخرى المرتبطة بالاضطرابات النفسية، وهي كثيرة. ثم العدد الكبير من المدرسين الذين يقدمون كل سنة طلباتهم للمغادرة الطوعية للأسباب ذاتها..
والمفارقة هي أن معطى الضغوطات النفسية المرتبطة بالمهنة يعتبر موضوعا يوميا لدى المدرسين، لكنه لا يحظى بأدنى اهتمام من الوزارة الوصية، وكذا من طرف النقابات. صحيح أن المجتمع المغربي، شأنه شأن كل المجتمعات العربية، ما يزال متخلفا جدا في التعاطي مع الصحة النفسية، إذ يقابله بالكثير من النكران والتعتيم، مكتفيا، في المقابل، بأحكام قيمة عن الاضطراب النفسي والعصبي.
وصحيح أيضا أن الخصائص السيكولوجية للمدرس، بعموم الصفة، تجعله غير قادر على التعبير الصريح والشفاف عن مشاكله النفسية التي يعانيها، معتقدا أن هذا الاعتراف هو إعلان عن الفشل في مهمته، إلا أن الحقيقة التي ينبغي أن نعيها جميعا ونبوح بها، استدراكا لنزيف الوضع، هي أن مهنة التدريس، في ظل متغيرات المجتمع والمدرسة المغربيين، أصبحت تسبب إجهادا نفسيا وعصبيا هائلا للمدرس، ومخطئ من يعتقد أنه في مأمن من الاضطرابات النفسية والعصبية الناتجة عن ممارسته هذه المهنة، ومخطئ أكثر من لا يعتقد أننا، كمدرسين، في حاجة إلى متابعة نفسية مؤسساتية دائمة، فنحن إزاء مهنة مُجهِدة ومتعبة.
إن المدرس هو الموظف الوحيد الذي تتعرض حياته الشخصية لانتهاك واضح من قبل حياته المهنية، لما تتطلبه من جهد كبير في البحث والتخطيط القبلي للدروس والتقويمات، ناهيك عن النزيف النفسي للتصحيح، فوفق إحصاءات رسمية، يناهز عدد الساعات الفعلية التي يمارس فيها المدرس أنشطة مهنته الخمسين ساعة أسبوعيا، فما لا يعرفه عامة الناس، الذين يحسدون -عن جهل- المدرس على «راحته»، هو أن العمل الحقيقي للمدرس لا يتوقف بمجرد مغادرته الفصل الدراسي، بل يبدأ منه، وفي العملية الحسابية البسيطة التالية يظهر الأمر بجلاء.
هذا فقط حديث عن ضغط ساعات العمل، الذي يمتد بأضعاف إلى الحياة الشخصية للمدرس، فإذا أضفنا إلى هذا ضغط الاكتظاظ في الفصول، وضغط الإدارة، التي لا تتردد في توجيه استفسارات لمن لا يحضرون المجالس المختلفة للمؤسسة، والتلاميذ المراهقين، الذين يعتبرون الفصل فرصة للتعبيرات المختلفة عن مراهقتهم، والمفتشين، الذين يطالبون المدرّس بجذاذات مختلفة، والآباء الذين يحاسبونه على «الفاصلة والنقطة».. أضف إلى هذا مطالب أخرى تحثه على أن يكون منشطا للحياة المدرسية ومؤمنا للزمن المدرسي وكفيلا ومنصتا للتلاميذ ومتواصلا مع الآباء.. فيكفي أن تنضاف إلى هذه الضغوطات ضغوطات اجتماعية وأسرية أو اقتصادية لنحصل -بالضرورة- على مدرّس /ضحية اضطرابات نفسية، كالاكتئاب والقلق والإجهاد النفسي والاستحواذ النفسي والشعور بالاضطهاد.
فالمدرس مطالَب بالقيام بأعباء وأدوار متعددة تفوق إمكانيات أي فرد، فالجميع يقوم بتقويمه، بدءا من المدير والمفتش والنائب الإقليمي، وصولا إلى التلاميذ والآباء، ولا أحد من هؤلاء قادر على تفهم قلق المدرس وإجهاده والضغوطات الممارَسة عليه.. كم هو غريب أن يُطلَب منه أن يراعي الجوانب النفسية للمتعلم، ولا أحد من هؤلاء يراعي جوانبه النفسية هو. والحاجة ملحة، اليوم، إلى أن يوضع معطى الصحة النفسية، سواء من حيث الوقاية أو المتابعة أو العلاج، على رأس المطالب النقابية، فما قيمة ترقية إدارية أو زيادة مالية لمدرس إن كانت ستنتهي في خزانة طبيب نفسي وصيدلاني؟

*“أستاذ مكون بالمركز الجهوي للتربية و التكوين في مجال علوم التربية”
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-