البكالوريا بين الصيام والغش !

      كلما أشرفت السنة الدراسية على نهايتها، ودخل التلاميذ والتلميذات المقبلون على اجتياز الامتحان الوطني لنيل شهادة البكالوريا مرحلة العد العكسي، إلا وتجدد النقاش حول ظاهرة الغش التي تؤرق المضاجع، واستنهضت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي همم وعزائم مصالحها، للشروع في التحضير للاختبارات بدقة وإحكام. إذ منذ أزيد من عقدين وهي تخوض حربا معلنة على الغشاشين، معتمدة عدة أسلحة تربوية وقانونية، دون أن يفلح عشرات الوزراء المتعاقبين على قيادتها في إيقاف النزيف، الذي لم يزدد إلا تفاقما في ظل الإصرار المتواصل على الغش بكافة السبل والوسائل، وعدم اكتراث ممارسيه بالعواقب الوخيمة.

      وإذا كان رئيس الحكومة سعد الدين العثماني اكتفى فقط بتقديم النصح للتلاميذ المعنيين، بدعوتهم إلى الاستعداد الجيد والتحلي بالاطمئنان والثقة بالنفس والاعتماد على قدراتهم الذاتية، لاجتياز امتحاناتهم في ظروف إيجابية بعيدا عن محاولات الغش، التي من شأنها التأثير على مسارهم الدراسي ومستقبلهم المهني، كما لم تفته الإشارة إلى أن هناك مقتضيات قانونية خاصة بزجر الغش، سيصادق على مشروع مرسومها التطبيقي المجلس الحكومي يوم الجمعة 25 ماي 2018، مطالبا الأسر المغربية بحث أبنائها على الانضباط والاستقامة... 


      فإن الوزارة الوصية التي يتولى حقيبتها سعيد أمزازي خلفا لمحمد حصاد، الذي تم إعفاؤه خلال حادث "الزلزال السياسي"، قامت باستنسناخ نفس الخطوات السابقة، حيث أصدرت بلاغا تؤكد من خلاله على أنها أطلقت سلسلة من الحملات التحسيسية لفائدة المترشحات والمترشحين، بمشاركة كافة المتدخلين التربويين ووسائل الإعلام، بغية إشعارهم بعواقب الغش في الامتحانات، وحضهم على الاتصاف بقيم النزاهة وتكافؤ الفرص، ومطالبتهم بالمصادقة على توقيع التزام لدى السلطات المحلية، يقرون بموجبه اطلاعهم على القوانين والقرارات الخاصة بالغش والعقوبات التربوية والزجرية المترتبة عن ارتكابه. وتعزيز آليات تأمين نقل مواضيع الامتحانات من مقرات التوزيع إلى مراكز الامتحانات، وتحصين فضاءات حفظها واستنساخها بنظام آلي للمراقبة الدقيقة وتعطيل الاتصال بالهاتف داخلها، ومواصلة العمل بالفرق المتحركة لزجر الغش باستعمال الوسائط الإلكترونية، وإحداث لجن اليقظة والتتبع ونشر المعطيات...


      وباستثناء تزامن الامتحانات مرة أخرى مع مناسبة رمضان المبارك، التي تثير مخاوف الكثيرين من صعوبة التركيز، وعدم القدرة على التكهن بما قد تكون عليه الحالة النفسية لبعض المدخنين، وما يمكن أن يحدث من انفعالات أثناء الحراسة، وهل سيصوم الغشاشون عن تصرفاتهم المرفوضة؟ فإنه تم اتخاذ نفس تدابير وإجراءات السنوات الماضية، التي لم تجد نفعا في الحد من الآفة... 


      فلا ننكر أنه على مستوى تنظيم الامتحان الوطني، ضاعفت الوزارة جهودها من حيث توزيع المترشحين على مراكز خارج مؤسساتهم الأصلية حسب مسالكهم الدراسية، وحصرهم في عشرين مترشحا بكل قاعة امتحان، واعتماد أعلى نقطة في الدورتين العادية والاستدراكية بالنسبة للحاضرين في جميع الاختبارات، بيد أنها مازالت عاجزة عن التخلص من كابوس الغش الرهيب. 


      ذلك أن الغش أعمق من أن تعالجه نصائح العثماني والاستنفار الموسمي والشعارات الصورية، ويتضح ذلك جليا في تنامي حالات الغش المسجلة والخفية في كل سنة، حيث لم يعد المترشحون يخشون أساليب التهديد والوعيد، أمام حالات الإحباط واليأس وتراجع منظومة القيم الأخلاقية، فضلا عن التسريبات قبل وأثناء الامتحانات، إذ غالبا ما تغص مواقع التواصل الاجتماعي بصور الأسئلة فور الشروع في توزيعها على المترشحين، لعدم القدرة على تجريدهم من كل هواتفهم "النقالة"، وما أمسى متوفرا لديهم من أجهزة متقدمة، تساعد في ممارسة الغش. لهذا تصعب مواجهته سواء بالقانون 02.13 المتعلق بزجر الغش في الامتحان، والمراهنة على الإجراءات التأديبية للحفاظ على مصداقية شهادة البكالوريا، أو بالمقاربة الأمنية، ما لم تتوفر إرادة سياسية قوية لاجتثاث جذوره، والانكباب على ترسيخ القيم والسلوكات المدنية في أذهان أطفالنا بصفة دائمة ومتواصلة منذ المرحلة الابتدائية، بمساهمة الأسرة ومختلف الفعاليات المدنية والأندية التربوية ووسائل الإعلام.


      ويعزو المراقبون مسؤولية شيوع الغش إلى الدولة، التي ما انفكت تتسامح مع ممارسيه في ميادين سياسية واقتصادية واجتماعية. وبالنظر إلى كون قطاع التعليم يندرج ضمن المنظومة العامة للمجتمع، التي تأثرت بمجموعة من التحولات الكبرى، فإن الغش في الامتحان ليس سوى مظهرا خارجيا لأزمة مجتمعية عميقة، نجده منتشرا في الإدارات العمومية وقطاعات الصحة والقضاء والأمن والمحلات التجارية، مما انعكس سلبا على المدرسة التي تعيش في قلب المجتمع، دون أن يبذل المسؤولون مجهودات حقيقية في اتجاه تخليق الحياة العامة ومراجعة البرامج والمناهج ووضع خطط مدروسة لإشاعة قيم النزاهة والشفافية والاستحقاق والحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة... فضلا عن اقتصار تعليمنا فقط على إعداد التلاميذ للامتحانات، وانشغال الأسر وأبنائها بنقط المراقبة المستمرة والمعدلات، أكثر من الاهتمام بالمرتكزات الأساسية من تعلمات ومعرفة وتكوين... 


      إن الغش في الامتحانات معضلة حقيقية، يستدعي استئصالها تكاثف جهود الجميع كل من موقعه، لمساعدة المدرسة على استرجاع بريقها والاضطلاع بدورها في تكريس القيم والتربية على المواطنة، وتغيير طرق التقويم المعتمدة. فحسب تقرير للبنك الدولي بعنوان "المغرب في أفق 2040"، تحتاج منظومتنا التعليمية إلى "علاج بالصدمة"، من أجل تجاوز الاختلالات القائمة والخروج من المراتب المتدنية في "جودة التعليم"، لاسيما أن بلادنا تمتلك رأس المال الجغرافي والسياسي والثقافي، الذي يؤهلها لتلعب أدوارا طلائعية في الأداء الاقتصادي بمنطقة الشرق الأوسط ، إذا ما جعلت من التعليم رافعة أساسية للتنمية.


اسماعيل الحلوتي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-