ليس هذا الإجراء جديدا، فقد نصت عليه كل الوثائق المؤطرة للهجوم على قطاع التعليم العمومي (ميثاق، ومخطط استعجالي وخطة إستراتيجية، مرسوم فصل التوظيف عن التكوين) ومعه ما سمي إصلاحا للوظيفة العمومية.. ما من مفاجأة إذن، فحكومة الواجهة المنتهية ولايتها لم تقم إلا بإتمام ما بدأته حكومات واجهة سابقة.
إحدى غايات إصلاح/ تخريب التعليم العمومي وأنظمة الوظيفة العمومية، هي تعميم الهشاشة والمرونة على ظروف عمل الموظفين، خضوعا لأوامر مؤسسات الرأسمال العالمي التي توصي بتخفيض نفقات القطاعات العمومية وفي نفس الوقت مراجعة نظام الأجور المعمول به في هذا القطاع وجعله أكثر مرونة ليتلاءم مع هدف التحكم في عجز الميزانية العمومية.
ليس هذا جديدا فقد تحدث المخطط الاستعجالي بصراحة عن “تنويع الأوضاع القانونية” لأطر التدريس، وقد بدأ التنفيذ قبل التنظير (الأساتذة العرضيين) واستمر بعده ليتخذ أشكالا أكثر حدة (سد الخصاص، مرسوم فصل التوظيف عن التكوين).
تريد الدولة الآن أن تجعل الهجوم شاملا وأكثر جرأة مع تخويل حق التوظيف بالعقدة للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وقد سبق للدولة أن عملت بذلك سنة 2009 حيث تم توظيف 3200 مدرسا، وذلك في سياق تفويض الاختصاصات في مجال تدبير الموارد البشرية إلى الأكاديميات الجهوية.
التوظيف بالعقدة.. قضاء على حق الشغل القار
يجب ألا تعزل مذكرة وزارة التربية الوطنية عن المرسوم الذي صادق عليه مجلس الحكومة يوم 24 يونيو 2016، والذي يحدد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية “إن اقتضت ضرورة المصلحة ذلك، دون أن يترتب عن هذا التشغيل، في جميع الأحوال، ترسيم الأعوان المتعاقدين بأطر الإدارة، كما ينص على ذلك الفصل 6 المكرر من الظهير الشريف رقم 1.58.008 الصادر في 4 شعبان 1377 (24 فبراير 1958) بمثابة النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، حسبما وقع تغييره وتتميمه ولاسيما بموجب القانون رقم 50.05”.
لا حق في الترسيم… ولا حق في المطالبة به
ورد في بلاغ وزارة التربية الوطنية حول المذكرة أن “مسطرة التعاقد هذه لا تخول بأي شكل من الأشكال الحق في الإدماج المباشر في أسلاك الوظيفة العمومية”.
لم تحرم مذكرة وزارة التربية الوطنية أطر التدريس المتعاقدين من حق الترسيم وحسب، بل حرمتهم أيضا من حق المطالبة به: “عقود التوظيف لا تخول المطالبة بالترسيم أو الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية”.
وهو اجتهاد “إداري” غريب، جاء على خلفية نضال الأساتذة المتدربين ضد مرسوم فصل التوظيف عن التكوين، لكن من يستطيع منع موظف من النضال من أجل تحسين شروط عمله.
إن الأصل في القانون هو أن أي بند في عقد شغل يمنح للأجير حقوقا أقل من الواردة النظام الأساسي المعمول به في قطاع معين، هو بند لاغ.
كما أن العقد العمل يوقع بين المتعاقد الفرد والأكاديمية ويمنع بالتالي المطالبة الفردية، لكن هذا لا يمنع المطالبة الجماعية بالترسيم والإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية.
لكن ميزان القوى المائل لغير صالح الكادحين تفشي البطالة هو ما جعل الدولة تهجم على ظروف عمل الشغيلة وتفرض عليهم قبول العمل بالتعاقد، ولكن لن يمنع أي شرط أو بند وارد في عقد عمل، الموظفين من النضال مستقبلا من أجل الترسيم.. الوزارة واهمة إن كانت تؤمن بذلك.
هل ستمنع الوزارة مستقبلا المشتغلين بالتعاقد من الانخراط في النقابات بمبرر أن هذا الانخراط قد يفتح الباب لطرح مطالب غير موجودة في عقد العمل؟
العقدة: مسار معقد ينتهي بلا شيء
في البنود الخاصة بشروط التعاقد جاء في المذكرة أن العقد يبرم لمدة محددة في سنتين، يخضع المتعاقد خلال السنة الأولى لتقييمين للمردودية المهنية، ويجدد هذا العقد لمدة سنة قابلة للتجديد بصفة تلقائية بعد سنتي التدريب وبعد اجتياز بنجاح امتحان التأهيل المهني الذي سينظم خلال سنتي التدريب لفائدة الأساتذة المتدربين.
أي أن سنتي التدريب وتقييم المردودية لا تمنح للأستاذ المتعاقد إلا حق التجديد التلقائي للتعاقد، وهو بند مسلط مثل السيف على كل من يريد النضال من أجل الترسيم، حيث سترفض الأكاديمية تجديد عقده بعد اجتياز امتحان التأهيل المهني.
وأهم شيء بالنسبة للوزارة هو الشرط الأخير: “لا يخول هذا العقد الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية”، يشترط العقد على الأستاذ المتعاقد ” الالتزام بكون النجاح في امتحان الأهلية التربوية شرطا ضروريا لتجديد العقد”.
ويبدو أن الوزارة يتملكها هاجس التأكيد على ضرب حق الترسيم حيث ورد هذا الشرط أكثر من مرة في المذكرة.
عقد تمييز: تساو في العمل وتفاوت في الحقوق
ناضلت الحركة العمالية منذ ظهورها من أجل تساوي الأجور، عملا بمبدأ “عمل متساو، أجر متساو”، لكن مذكرة وزارة التربية الوطنية تكرس التمييز واللا مساواة بين موظفي نفس القطاع.
ورد في مذكرة الوزارة أن الأساتذة المتعاقدين يتمتعون “بالواجبات المنصوص عليها في عقود التوظيف المبرمة مع الأكاديميات”، أي أنهم تلقائيا مستثنون مما ينص عليه “النظام الأساسي لموظفي وزارة التربة الوطنية”، ما يفتح بابا لازدواجية معايير التعامل مع موظفين في نفس القطاع ويؤدون نفس العمل.
ففي بنود الواجبات يرد في المذكرة مجمل ما على الأساتذة المتعاقدين التقيد به، وهي كلها واجبات يتقيد بها الأساتذة المرسمون، بما فيه شرط “عدم ممارسة أي عمل أو نشاط مذر للربح أثناء مدة العقد”.
لكن المذكرة ومنطق التعاقد يضرب في العمق مبدأ المساواة بين موظفين يؤدون نفس المهام، فما معنى أن يتواجد في نفس القطاع أستاذ يضمن له النظام الأساسي حق الترسيم، وآخر يفرض عليه عقد التوظيف “عدم المطالبة بالترسيم”.
ومن أوجه التمييز أيضا ما ورد في البند الخاص بالحق في الأجرة الذي نص على “أجرة جزافية شهرية… مماثلة للأجرة التي يتقاضاها الأستاذ الرتب في الدرجة الثانية (السلم 10).
إن جعل الأجرة جزافية، هو فتح الباب لمراجعة هذا الحق بشكل دوري، ما يعطي للوزارة والأكاديميات صلاحية تحديدها الجزافي، ما دام ليس هناك قانون يحدد الأجرة تحديدا دقيقا كما هو معمول به في النظام الأساسي لموظفي وزارة ا لتربية الوطنية.
التعاقد مع الأكاديميات.. مزيد من تفكيك المدرسة العمومية
من بين أوجه الهجوم على التعليم العمومي، نزع المركزة وإعطاء الاستقلالية لمؤسسات التعليم بما فيها استقلاليتها المالية وحق وضع مشاريع لتسيير حياتها باستقلالية عن المركز.
سبق للمخطط الاستعجالي أن منح الأكاديميات الجهوية حق توظيف الأطر المدرسية، وقد جاءت المذكرة الحالية لتفعيل هذا البند، الذي يقضي بنقل صلاحية التوظيف إلى الأكاديميات التي ستشرف على تنظيم المباريات وتوقيع عقود التشغيل ومواكبة تكوين وتقييم الأساتذة المتعاقدين.
وربطت المذكرة “الحق في الأجرة ليس بميزانية وطنية تدرج كبند في الميزانية العمومية بل أكدت أن “الأجرة الجزافية.. تصرف من ميزانية الأكاديمية”، وهو ما سيفتح الباب أمام مشاكل أداء الأجور، ولكن أمام ما هو أخطر وهو ربط هذا الأداء بقدرة الأكاديميات على جلب واستقطاب التمويل.
ورد حق التقاعد في مذكرة الوزارة بصيغة عامة دون الإشارة إلى وجوب تسجيل الأساتذة المتعاقدين في الصندوق المغربي للتقاعد، والصيغة العامة تفيد بأنه سيجري تسجيلهم في إطار “النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد” وهو نظام يطبق على:
– المستخدمين المؤقتين والمياومين والعرضيين العاملين مع الدولة والجماعات المحلية.
– المستخدمين المتعاقدين الجاري عليهم الحق العام.
عملية ابتزاز
قبل إصدار المذكرة، قامت الدولة بعملية ابتزاز حقيقية، حيث تركت المدارس تعيش حالة اكتظاظ لا يطاق وحرمان من الأطر التعليمية.. أي أنها تركت الأمور تسوء كي تضع الكادحين (أسرا وتلاميذ وشغيلة) أمام الأمر الواقع، وتفرض عليهم “التوظيف بالتعاقد”، وتفرض مذكرة الوزارة على الأساتذة المتعاقدين “الالتحاق بمقر العمل.. ابتداء من 19 دجنبر 2016″، وذلك لإيجاد حل لمشكلة الاكتظاظ ونقص الأطقم التربوي (الناتج عن مغادرة أفواج المتقاعدين).
إن لم تستحي قل ما شئت
بعد كل هذا الحرمان من الحقوق الذي يندرج ضمن هجوم شامل يروم تخريب التعليم العمومي كما وجودة، لا تستحيي مذكرة الوزارة من التصريح أنها لن “تذخر جهدا من أجل تمكين كافة الأطفال من حقهم في التمدرس وكذا توفير الظروف الملائمة لإنجاح العملية التعليمية-التعليمية والارتقاء بجودة المنظومة التربوية”.
إن خوف الدولة من تكرار تجربة الأساتذة المتدربين الذين أجبروها على تجميد مرسوم فصل التوظيف عن التكوين عن فوج 2016- 2017، هو الذي دفعها لتضمين عقد عمل ما لا يجوز أن يتضمنه، من اشتراط عدم النضال.
النقابات: المعني المباشر بصد الهجوم
يستدعي هذا الهجوم النوعي على الوظيفة العمومية ردا نضاليا قويا من أجل إسقاطه، وهذه المهمة ملقاة بشكل رئيسي على عاتق النقابات العمالية، ونقابات الموظفين بشكل خاص، وموظفي التعليم بشكل مباشر حاليا. فالتوظيف بالتعاقد سيفتح الباب أمام قلب نوعي لظروف عمل وحياة موظفي التعليم، وسيعبد الطريق لكل تلك الإجراءات المطبقة ببطيء وتردد حتى الآن.
المطلوب باستعجال تعبئة داخل نقابات التعليم من أجل التصدي لهذا التعدي السافر وإسقاطه، وفرض تشغيل قار بكل الحقوق المكتسبة وتوسيعها، تشغيل يستجيب لمستوى الخصاص المهول والحاجة الماسة لتعليم عمومي مجاني وموحد وجيد.
لكن قيادة النقابات العمالية، وضمنها قيادة نقابات التعليم، لا تبدي مؤشرات حياة، بل مؤشرات استسلام تام للهجوم؛ من جهة استجداء الحوار والإشراك في تفصيل التعديات، ومن جهة ثانية تظاهر بالاعتراض الكلامي مع استنكاف تام عن المواجهة الميدانية والتعبئة ضد الهجوم.
كما أن القيادات المحلية، أي مكاتب الفروع النقابية، تنساق وراء القيادات العليا، فيما الواجب هو أن تسعى إلى ربط الفروع المناضلة في تنسيقات تدعو إلى خطوات نضالية .
حق النضال من أجل حق الترسيم
يجد جيش المعطلين العرمرم نفسه منزوع السلاح ودون القوة اللازمة لرد التعديات، ولا يساعد حال منظمات الشباب والشباب العاطل خاصة بخوض النضال الضروري لوقف الهجوم وإسقاط فرض التعاقد.
سيدفع واقع البطالة المستشرية بأفواج الخريجين من الجامعة أو مراكز تكوين الأطر التربوية إلى قبول شروط التعاقد في البداية، لكن لا يوجد عقد أو قانون في العالم يستطيع منعهم من النضال من أجل تحسين ظروف عملهم.
لن تمنع دعوات مقاطعة المباريات، تمرير هذا التعدي البالغ الخطورة لأن بيروقراطية النقابات مستنكفة عن مبرر وجودها: النضال لتحسين شروط الاستغلال في أفق القضاء عليه.
طبعا تستحق كل مبادرة للنضال من أجل وقف هذا العدوان الإشادة والدعم، بل تجب الدعوة لمبادرات نضال، وهذا المقال الذي يتناول مضمون مذكرة وزارة التعليم، يروم الإسهام في ذلك ببسط خطورة الهجوم المستهدف للوظيفة العمومية بشكل عام وللتعليم العمومي بشكل خاص.
عن موقع المناضل-ة