قانون التقاعد أسقط القناع عن النقابات في المغرب

ذ. الكبير الداديسي
لم يبق في عمر الحكومة المغربية إلا أيام معدودات، فغدت تفكر بعقلية "مطبخ رمضان" التي تفرض ضرورةَ تحضير مائدة الإفطار قبيل آذان المغرب مهما كانت الظروف... بنفس العقلية تحاول الحكومة تمرير القوانين الخطيرة التي أخرتـها للوقت بدل الضائع، مستغلة العطلة الصيفية ــ وتلك عاداتها ــ  حيث معظم المغاربة في عطلة أو مشغولون بنتائج أبنائهم في الامتحانات والمباريات ، أو بمناسبات رمضان وعيد الفطر والدخول المدرسي وأجواء الانتخابات القادمة... لتمرير ما بقي عليها تمريره من قوانين ..  في مثل هذه الظروف مررت خلال السنة المنصرمة المرسومين المشؤومين المتعلقين بالأساتذة المتدربين ، وها هي اليوم تمرر في غفلة من الموظفين  أهم وأخطر تلك القوانين وأكثرها إثارة للرأي العام (قانون إصلاح أنظمة التقاعد) ...و بخلاف ما كان متوقعا تمت المصادقة على القانون في الغرفة الثانية للبرلمان التي تتوفر فيها المعارضة على الأغلبية المطلقة وفيها تمثيلية وازنة للنقابات التي يفترض فيها الدفاع باستماتة على مصالح منخرطيها .. وفي رمشة عين قضي الأمر وتمت أغرب مصادقة على أخطر قانون سيتحكم في رقاب وقوت الآلاف من الأجيال الراهنة والقادمة ....
   المصادقة على هذا القانون بهذه الطريقة تفوح منها رائحة الخيانة والتواطؤ المقصود، مما جعل موظفي الوظيفة العمومية بالمغرب يعيشون تحت صدمةٍ ما عرفوا لها تبريرا وما أنزل الله بها من سلطان .. لأنها مصادقة في غرفة كان بإمكانها رفض المشروع ودونما حاجة إلى تنسيق... كان بالإمكان الوقوف في وجه هذا المشروع الذي يعتبره الموظفون ظالما ومجحفا ما دام يلقي كلفة الإصلاح على أكتاف الموظفين وحدهم  بالزيادة في الاقتطاع من رواتبهم، رفع سن التقاعد إلى ما فوق الستين وربط أجر التقاعد بمعدل السنوات الثمانية الأخيرة للمتقاعد بدل آخر أجر، واحتساب نقطتين في كل سنة عمل بدل نقطتين ونصف، لتكون النتيجة : عمل أطول اقتطاع اكبر وأجر أقل(الثالوث الملعون).
تمت المصادقة على قانون خطير بطريقة غريبة ... تمت المصادقة ب 27 صوتا من أصل 120 مستشارا  وصوت ضده 21 صوتا فيما اختار حوالي نصف المستشارين التغيب عن جلسة التصويت ( 53 مستشارا)  والأكثر غرابة هو حضور ممثلين عن نقابات ما انفكوا منذ طرح القانون للنقاش يصرحون باستعدادهم لتقديم أنفسهم فداء للدفاع عن مكاسب الموظف العمومي ويقسمون بالأيمان الغليظة بعدم السماح بتمرير القانون إلا على جثتهم وخوض معارك نضالية متنوعة والنزول إلى الشارع ... لكنهم آثروا لحظة التصويت خذلان من صوتوا عليهم وأوكلوا لهم مهمة صيانة حقوقهم  فانسحبت أربعة أصوات (ممثلو نقابة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل ) وامتناع أربعة مستشارين آخرين عن التصويت (ممثلو نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب ) ، لينكشف القناع عن الشعارات الفارغة وكانت أصوات الغائبين والمنسحبين والممتنعين تصويتا مباشرا لصالح القانون ...
انهار التنسيق النقابي الذي ظل منذ سنوات يبرق ويرعد، ويهدد بزلزلة الأرض تحت أقدام الحكومة ، ويرفع شعار الاحتكام لديمقراطية الشارع... ليكشف تحالف نقابات  الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل و الاتحاد العام للشغالين بعد تمرير القانون أن كل تلك الشعارات وكل ذلك التنسيق لم يكن يوما من أجل الدفاع على حقوق الطبقة العاملة من الأجراء والموظفين  وإنما لأهداف انتخابوية وبهدف ضرب التنسيقيات والحركات الاحتجاجية التي تجاوزت التنظيمات التقليدية من الأحزاب السياسية والنقابات وحققت شرعية ومناعة عرت زيف تلك التنظيمات التي حظيت ببعض المنشطات والمهيجات واعتقدت أن لها قواعد يمكن أن تقايض بها لكن التصويت أظهرها أسدا من ورق ، وتنظيمات مُـحالة على التقاعد  قبل الأوان.
إن خذلان النقابات لقواعدها وعدم تصويتها ضد القانون سيكون له عواقب جد وخيمة على العمل السياسي والنقابي بمغرب مشرف على استحقاقات تشريعية مطلع شهر أكتوبر المقبل ، ومن الآن يمكن التنبؤ بضعف وهزالة الكتلة الناخبة وعزوف الأغلبية عن صناديق الاقتراع ما دامت لا تنتج إلا الخذلان والتقاعس  ...  وبهذا الموقف المتخاذل لأحزاب المعارضة ونقاباتها ستزداد هوة عدم الثقة في كل عمل نقابي وسياسي لدى الطبقة المتوسطة التي كانت إلى عهد قريب تقود أي عمل نقابي وسياسي... خاصة إذا تأكد ما يروج  حول وجود صفقة وتنسيق مسبق بين الحكومة والمركزيات النقابية المقاطعة والمنسحبة من جلسة التصويت  في تواطؤ مكشوف لتمرير قانون التقاعد مقابل تراجع الحكومة عن قانون النقابات الذي يفضي بضرورة تخلي المتقاعدين عن المناصب القيادية للنقابات ومعلوم أن معظم النقابات تسيرها أطر متقاعدة ورثت كرسي التسيير وتشبثت به ولا تقدر عليه الفطام.
29 صوت إذن يؤزم نفسية ومالية 80 ألف موظف وأسرهم ، وإذا كان هذا مشروع حكومي يلبي طلبات المؤسسات المالية الدولية في غياب وانسحاب وامتناع النقابات والمعارضة عن التصويت يرى فيه الموظفون طعنة من الخلف استشعرها الكثير من رجال ونساء التعليم فطلبوا التقاعد النسبي (تم قبول طلب 15 ألف أستاذ وأستاذة) وأكثر منهم سيحال على التقاعد العادي  في قطاع يعاني خصاصا قدرته الجهات الرسمية ب 30 ألف منصب . هذا الخصاص دفع الحكومة إلى فتح ما يعرف بالوظيفة بالعقدة مدتها سنتان على أقصى تقدير وفي ذلك تهديد لاستقرار الأسر ولجودة الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة... وضرب للحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمتعاقد .وهو ما يضع أكثر من علامة استفهام على مستقبل البلاد والعباد... وإذا كان للحكومة أجندتها فلا نـجد ما نقوله للأحزاب (التقدمية ) ونقاباتها المحسوبة على المعارضة سوى ما ورد في الكوميديا الإلهية لدانتـي (أسوأ الأماكن في الجحيم محـجـوزة لِـمن يلتزمون بالحيادية في أوقات الـمحن الأخلاقية الشديدة) وقول طرفة ابن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة      على النفس من وقع الحسام المهند
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-