ذ.كريمة مهتدي
عندما يتزوج أي رجل فإنه يهدف بذلك إلى تكوين أسرة، ويقترن غالبا مفهوم البيت والأسرة بوجود الأبناء، وبمعنى آخر، فالأسرة كيان يتم بناؤه من أجل الوصول إلى أهداف معينة، أهمها إنجاب الأبناء وتربيتهم، والواقع أن تربية الأبناء ليست بالأمر السهل، بل هي مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأسرة، بحيث يتطلب الأمر الكثير من الجهد والتخطيط، فإذا ابتغى الوالدان التوفيق في تربية أبناء صالحين وبناء مستقبل واعد لهم، فإنه ينبغي عليهما تحديد أهداف تربوية معينة ومعرفة الوسائل والطرق اللازمة لبلوغ تلك الأهداف، ويشكل ذلك برنامجاً تربوياً متكاملاً، عليهما تربية أبنائهما وفقه. فالوالدان اللذان لا يفكران في تربية أبنائهما لا يحق لهما انتظار المعجزة والمستقبل من أبنائهما، فكما نسمع في مجال الزراعة مصطلحات كالري والغرس وجني الثمار، ففي عملية التربية والتعليم أيضاً ما يشابه ذلك، أي أن الأبناء يعتبرون الثمار الناتجة من الجهود التربوية للوالدين.
فالتعاون بين الأسرة والمدرسة من أهم الركائز الأساسية التي تساعد المدرسة على القيام بوظائفها، حيث أنها مشاركة قائمة على الشعور بالمسؤولية الإجتماعية وهو ليس شعورا عقليا فحسب وإنما شعور عاطفي وخلقي، أي أنها مشاركة في كل ما يتصل بالحياة المدرسية بصفة عامة.
وبحكم الفطرة، يحرص الوالدان على توفير أفضل الظروف للنمو المتكامل لأبنائهما، وقد يتمثل هذا الحرص في متابعة أداء الأبناء لواجباتهم المدرسية واستمرار انتظامهم في الدراسة. وعلى الرغم من أهمية هذه الأمور، إلا أنها لا تعني كل أشكال التعاون والمشاركة بين البيت والمدرسة.
إن الوضع الأسري يؤثر تأثيرا مباشرا على الشقين المعرفي والنفسي للتلميذ، مما يؤكد العلاقة القوية والمؤثرة بين الأسرة والمدرسة، فالطفل عندما يكبر يرى أنه أصبح كياناً مستقلاً، وربما بلغ به الأمر أن يرى كل كلمةِ نصحٍ من والديه، تُوَجّه إليه، أو رأيٍ يُقدَّم له، عدواناً على كيانه، وانتقاصاً من مكانته!
ويزداد الأمر خطورة حين ينشط المروّجون لتحطيم الأسرة، الذين يُثيرون مشاعر الصراع بين الرجل والمرأة، أو بين الآباء والأبناء... يصوّرون تحقيق وجود أيّ فريق لا يكون إلا بقهر الفريق الآخر، وإذاً لا يستطيع أبناء الجيل الناشئ من النجاح إلا إذا تجاوزوا آباءهم وأهملوهم وعقّوهم!
وفي هذا قطع لوشائج المودة والإحترام، وتنكُّرٌ لفضل الوالدين على أولادهم، وإهدار للخبرات التي اكتسبها الكبار من تجاربهم، ويُريدون أن يُفيدوا بها أولادهم.
صحيح أن الحياة في تطوّر مستمر، وأنّ سيل العلوم والمعارف متدفّق، وأن لدى الجيل الصاعد من هذا السيل ما لم يكن لدى الآباء...لكنّ الأصح أيضا، هو أن نهر العلوم متواصل عبر الأجيال، وأنّ أي جيل يكون مخطئاً وجاهلاً وعاقّاً إذا ظن أن ذكاءه وجهوده هي التي أوصلته إلى ما هو فيه من غير استفادة من علوم السابقين، فضلاً عن أن خبرات الحياة وأصول التعامل وفهم مجريات الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أكبر من أن يصنعها فرد أو أفراد أو جيل واحد من الأجيال.
إن أطفال اليوم ليسوا أكثر ذكاء من جيل والديهم، ومن المؤكد أنهم يمتلكون معظم تلك التفاهات الإلكترونية المحشوّة في أذهانهم، ولكن لا بدّ أن نلاحظ حجم التضحيات التي بذلوها في سبيل التخلي عن امتيازاتهم. وأحد هذه الامتيازات المفقودة هو أنهم لا يقرؤون إلا ما ندر. ويُعدّ ذلك بحدّ ذاته عملاً إجرامياً. كما أن أفراد الجيل الجديد لديهم البدائل التي تقوم بالتفكير نيابة عنهم. وعلاوة على ذلك، بوسعهم اصطحاب الهواتف النقالة إلى قاعات الامتحان، فيما لم يكن يُسمح لوالديهم سوى إحضار الآلة الحاسبة.
غير أن أهم امتياز تنحّى عنه هذا الجيل يتمثل في عدم مقدرته على الإبداع، أما الجيل القديم فلم يكن لديه الكثير ليشتّت تركيزه الذهني. ولذا فقد امتاز بالابتكار والقناعة بما هو موجود، واستحداث الحلول لمشكلاته الحياتية بمهارة فائقة، وقد اختفت هذه السمات برمّتها في أفراد الجيل الجديد.
وربما كان الجيل القديم آخر جيل يؤمن بنظرية "إصلاح ما يتوقف عن العمل". وقد اعتاد الجيل المذكور على إصلاح ما يمتلكون والاعتزاز بذلك. وفي الوقت الراهن، يُعدّ إصلاح الأعطال أمراً من الماضي، ويُمكن ببساطة استبدال كل شيء وليس هناك أسهل من شراء طراز أحدث. إذ لم يعد هذا الجيل بحاجة إلى إصلاح ما يتعطل. وكذلك فإنهم يفتقرون إلى الصبر الذي يعين على وضع الأمور في نصابها الصحيح، مما يدلّ على انعدام المرونة لديهم.
إن أمهات وآباء الجيل القديم كانوا يتمتعون بقدر أكبر من الاستقلالية، رغم أن الجيل الجديد يعتقد بأن مجال حرية التصرف لديه غير مسبوقة. وعلى وجه الدقة، فإن مسألة حرية التصرف هذه ليست صحيحة. فالوالدان اللذان ينتميان للجيل القديم منحا الأولاد والبنات مجالاً أوسع ليطوروا أنفسهم، لأن المنافسة في السابق لم تكن شرسة كما هي عليه الآن. أما في أيامنا هذه فإن مرحلة الطفولة قد قصُرت، وسنوات المرح والتسلية أصبحت محدودةً جداً، إذ يتم إقحام هؤلاء الأطفال في صراع محموم قبل الأوان. وعليهم أن يتنافسوا بشدة مع الآخرين مع المتابعة الصارمة من جانب الوالدين.
وبالنسبة لآباء الجيل القديم وأمهاتهم، فلم يكونوا منهمكين إلى هذا الحد في حياة أطفالهم، إذ أن الحاجة إلى متابعة الأطفال خوفا من الفشل في الحياة كانت منتفية. وهذا الضغط الذي يتعرض له أبناء هذا الجيل جعلهم يفتقرون إلى الذكاء، فهم يشبهون بعضهم كثيراً ويتكلمون بأسلوب المنطق ذاته.
تعتقد أجيال اليوم بأنها دائنة للآخرين بشيء ما وتطالب به على الدوام، ومن المحتمل أن يكون ذلك من العوامل التي ساعدت على تشكيل هذا الجيل المتعثر الذي يعوزه الذكاء. أما أطفال الجيل القديم فكانوا أطفالاً عظماء في مرحلة طفولتهم. ومع مرور الزمن، أصبحوا آباء دون أن يكبروا فعلياً.
وربما مرد هذه الحالة التي يعيشها هذا الجيل والمدرسة المغربية أيضا إلى عدة تحديات يمكن أن نجملها في الآتي:
1-حضارة غير مواتية: ليست أمة الإسلام هي التي تصنع الحضارة اليوم، وليست هي التي تصوغ لأمم الأرض شروط العيش الكريم، ولا معايير التقدم والارتقاء. إنها مشغولة بمشكلاتها الخاصة، ومرتبكة في التعامل مع الوافدات الأجنبية التي تفد إليها من كل مكان. وهذا يعني أن جزءا من مشكلات التربية والتعليم في المغرب يعود الى أن الفضاء الحضاري الذي يكتنف كل أنشطتنا التربوية، هو فضاء غير منسجم وغير ملائم مع جوهر الرسالة التربوية التي نقوم بإيصالها إلى الأجيال الجديدة.
وإلى جانب هذا تشيع ثقافة تساوي على نحو متزايد بين الثروة المادية والقيمة الشخصية، فالذي لا يملك شيئا لا يساوي شيئا، والذي يملك الكثير يساوي الكثير، وبما أن الوظيفة تحتاج إلى شهادة والشهادة تحتاج إلى نجاح، فقد حل السعي لدى تلاميذ الثانويات وطلاب الجامعات إلى الحصول على النجاح محل الإهتمام الأصيل بالعلم، مما أدى الى صبغ النشاط العلمي بالصبغة التجارية في كثير من الأحيان، وصار كثير من التلاميذ المغاربة لا يبذلون في سبيل العلم إلا ما يؤمن لهم النجاح، وتفريعا على هذه النظرية المادية، صار كثير من الشباب يعتقدون أن السعادة شيء يمكن الحصول عليه بالمال، وهذا ما دفع كثيرا من الشباب المغربي إلى إدمان أنواع عدة من المخدرات، كما دفع قسما آخر منهم إلى الإهتمام بالمظهر والشكل، ومحاولة الظهور بالإنتماء إلى شريحة أعلى من الشريحة الحقيقية التي ينتمون إليها. إن مضمون الرسالة التي يتلقاها الشباب المغربي اليوم يقول: اسرح وامرح واضحك واستمتع ما استطعت ولا تأبه كثيرا للعواقب.
وكان كل ذلك على حساب الرؤية الإسلامية التي تنظر إلى السعادة على أنها شيء يتفجر في داخل الإنسان نتيجة انسجام سلوكه مع معتقده، ونتيجة تحرره من استعباد المادة والشهوة.
إن الغرب ينشر ثقافة إباحية جعلت كل شيء مكشوفا أمام الأجيال الصاعدة، وصار الطفل المغربي يفقد براءة الطفولة في وقت مبكر جدا، مما جعله يعيش تحت وطأة مشاعر جنسية ليس مؤهلا للتعامل معها والسيطرة عليها. أما الأفلام والروايات (البوليسية) فإنها تدخل الأطفال في وقت مبكر في عالم الجريمة والعنف، وتجعلهم يعتادون على حوادث القتل والسطو والاغتصاب وصار كثير منهم يقلد ما يراه ويمارسه بل ويطوره. وحين استدبرت الأسر المغربية الوحي وقطعت صلتها بجوهر رسالات السماء، سيطرت عليها روح العدمية واليأس، وصار كثير من أبنائها يشعرون بانسداد الآفاق وباليتم الروحي. ومع كثرة المحاولات التي تبذل من طرف الجهات المسؤولة في المغرب لإشاعة روح التفاؤل إلا أن هذه الأجيال المغربية المتعاقبة تقابل كل تلك المحاولات بالتهكم والإستهزاء مع أن تلك الأشياء التي وفرت لهذا الجيل لم تكن متوفرة للجيل السابق. إن الجيل المتهكم، الذي يسخر من كل المثل العليا والأهداف السامية، لهو في طريقه إلى أن يفقد إيمانه بكل شيء، حتى ثقته بنفسه، وذلك يعني الصيرورة الى التلاشي الكامل! وترتب على موقف الاستهزاء والتهكم ذاك، عدم الشعور بالمسؤولية سواء اتجاه أساتذتهم أو والديهم أو...ومن وجه آخر فإن التغيرات السريعة غرست في أعماق الناشئة مفهومات التقادم والزوال، إذ مادام كل شيء يتبدل ويختفي ويزول –وصناعة الحاسوب تقدم نموذجا على ذلك-فما معنى الإصرار على المحافظة على القيم والمبادئ القديمة.
إن المرء من دون قيم يسعى إلى تحقيقها في حياته تلفه مشاعر الحيرة والإضطراب وهو يعيش في وطنه وبين أهله، حيث تتحول الأشياء التي ينتجها الإنسان كي تكون في خدمته إلى أشياء تتحداه وتهدد وجوده. بل إن (اريك فروم) يرى أن عطاءات الإنسان تتحول في حالة الإغتراب إلى أصنام يعبدها، وإلى أوثان يسجد لها، فالوثنية في نظره تشكل جوهر الاغتراب.إن كل ذلك يحدث بسبب الإستمرار المكثف في التقنية، وبسبب الإعراض عن الاستثمار المكثف في المجالات الأخلاقية والاجتماعية.
هذه الوضعية المخيفة تشكل البيئة الثقافية والحضارية التي يحيا فيها الإنسان المغربي وسط الدول الصناعية الكبرى. وقد أخذت رياح الغرب تعصف بخيامنا، وتسمم جذور الحياة الفردية والاجتماعية في بلدنا. وصار على الأسرة والمدارس المغربية أن تتجاوز مسألة تلقين الأجيال الجديدة القيم والمبادئ الإسلامية، إلى إقناعهم بها وإزالة الشبه والالتباسات التي تثار حولها، أي أن المشكلة تتحول من أن تكون تربوية إلى أن تصبح فكرية معرفية، يتجسد فيها نوع من الصراع بين الناشئة وذويهم. وهذا يشكل تحديا يصعب التغلب عليه في كل حين!
وإذا تجاوزنا التحديات الوافدة التي تعرقل الأعمال التربوية، إلى النظر لمشكلاتنا الداخلية ،وجدنا أننا نعاني قصورا في المفهومات، وضعفا في الإمكانات، في الكثير من مجالات الحياة، وهو ما ينعكس سلبا على الاهتمام والحافزية، سواء لدى المتعلم ـ على سبيل المثال ـ أو لدى المدرس، إذا قاربنا المسألة في السياق التربوي، فقلة قليلة من المتعلمين، هي التي تبدي اهتماما بما يقدم إليها، وقلة قليلة جدا من المدرسين هي التي تسعى إلى تطوير أدائها، في مقابل جيش عرمرم من المدرسين الذين يستمرئون الرتابة وإعادة إنتاج التخلف.
2-وسائل تثقيف منافسة: كان الناس في البيوت يربون في بيئة محدودة شبه مغلقة، وكانت المدرسة المغربية تمارس التربية والتعليم دون أي منافسة تذكر من أي جهة، فما تقدمه دائما مقبول، أو هو أحسن ما يمكن الحصول عليه. إنها كانت أشبه (ببقالة) وحيدة في قرية صغيرة وليس أمام المواطنين سوى الاقتناء منها، وليس في أذهانهم آفاق واسعة لتطويرها، ولا بين أيديهم إمكانات لتجاوزها، وفجأة إذا بعشرة أسواق (سوبر ماركت) تنتشر في أنحاء القرية، وفي كل سوق أشكال عدة من كل صنف تعرضه البقالة المتواضعة. وقد حار صاحب البقالة في أمره، فهو لا يعرف الأسباب التي جعلت عملاءه المعتادين ينفضون عنه فجأة، كما لا يعرف بالتالي كيف يستعيدهم! هذا ما تواجهه مدرستنا المغربية اليوم، بل في معظم أنحاء العالم.
فكلما قفز العلم قفزة على صعيد البث والاتصال وشبكات المعلومات وأوعيتها، فقدت المدرسة المغربية شيئا من وظائفها وشيئا من بريقها، حيث إن الحقيقة في أية مادة أو تخصص لم تعد ملكا للأستاذ وحده، ولم يعد أكبر المفتين فيها، فقد صار في إمكان التلميذ المغربي أن يبحر عبر شبكات المعلومات ليجد حول كل قضية أضعاف أضعاف ما في كتابه المدرسي أو ما لدى أستاذه.
3-القصور الذاتي للمواطن المغربي: مضت سنة الله تعالى في خلقه أن تكون المعاناة الأساسية للبشرية في كل شؤونها بسبب ما تصنعه أياديها، فمبدأ (قل هو من عند أنفسكم) (1) واسع التطبيق والتحقق. وكل شكل من أشكال الإصلاح يتجاهل أصحابه مسألة القصور الذاتي تكون نتائجه مخيبة للآمال، ولذا فإننا نستطيع القول دون حرج: إن الكثير من المشكلات الجوهرية التي تعاني منها مدرستنا المغربية، لا تنبع من ضغوط الحضارة الغربية ولا من منافسة وسائل الإعلام، وإنما من ارتباكها حيال نظمها الخاصة ومشكلاتها الخاصة، وحيال المتطلبات الجديدة التي أملاها عليها التطور الحضاري(2).
ولا أريد أن أسترسل أكثر وأكثر في سرد التحديات التي تواجهها مدرستنا المغربية اليوم، والتي جعلت الأجيال المتعاقبة تعيش حالة من الحيرة، خشية مزيد من اليأس والإحباط، لكن على العموم، فإن هذه التحديات لن تنهي حاجتنا إلى المدرسة المغربية التي تمت تنشئتنا على يدها وندين لها بالفضل الكثير، بقدرما ستعقد مهمتها التربوية وتجعل تطلعات الأجيال المتعاقبة أوسع مما يمكن أن توفره إمكاناتها المحدودة.
ولا شك أنه يقع على الوالدين عبء كبير في إعداد جيل مغربي مميز، سواء في إلتزامه بالإسلام أو وعيه بدوره في الحياة، وما يجب أن يقوم به حتى يعود للإسلام مجده السليب وتسترجع أمتنا كرامتها وسابق عزها، ولذلك سأختم مقالي التربوي ببعض الرسائل التي أوجهها للأسر المغربية لعلها تلقى الصدى لدى البعض، وهي كالتالي:
1- بمجرد سماع أي زوج مغربي خبر حمل زوجته، فإن السؤال الذي يتبادر إلى ذهنه وذهن زوجته، والذي يتمثل في إعداد وتوفير ماديات الولادة والمستشفى، ومنهم من يفكر في شراء سرير للطفل قبل ولادته، وآخرون يفكرون في اسم هذا المولود، والبعض يفكرون في مستقبل الطفل ودخوله للمدرسة وكم سيكلفه ذلك...لكنني سأتطرق لإستراتيجية استقبال الطفل، فكيفية استقبال الطفل تحتاج منا لحوار طويل كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من ربى صغيرا حتى يقول لا إله إلا الله لم يحاسبه الله) ....
إن حسن التربية يعفينا من الحساب، وهذا الحديث يبين لنا مدى أهمية التربية والتي لابد أن تبدأ بتهيئة الجو الأسري المستقر، وهو ما يبدأ باختيار الزوج لزوجته واختيار الزوجة لزوجها. وبما أن الزواج عبادة، فليتخذ كل منا لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر الدنيا والدين، ولا بد أن يحدد الزوجان هدفهما من إنجاب الأطفال،وللأسف، فإن العديد من النساء المغربيات يخيل إليهن أن كثرة إنجاب الأطفال ضمانة لإستمرار الحياة الزوجية، في حين أن ذلك أحد الأسباب التي تجعل الزوجين يفكران مائة مرة قبل أخذ قرار الطلاق، أما عندما يكون للأسرة ولدان أو ولد واحد، فإن مسألة الإنفصال تكون أكثر سهولة، فعلى سبيل المثال ـ وأنا أبحث في الموضوع ـ بادرتني فاطمة، (وهي أم لثلاثة أبناء تعيش في بلدة أولاد ايعيش نواحي مدينة بني ملال) قائلة:" إن الأبناء أحيانا يكونون السبب في جعل الآباء أكثر حرصا على الحفاظ على الإستقرار". وبالنسبة لسعاد، (موظفة بنفس البلدة، لم تتزوج بعد) تقول: «عندما كنت صغيرة كنت أسمع والدتي تنصح أختي الأكبر مني سنا بأن تنجب أطفالا كثرا، من أجل ضمان استمرارية زواجها لأن الرجل على حد قولها الدارج: (ما يشدوه غير الأولاد)"، ولكنها تضيف قائلة:" أظن أن الأمر اختلف الآن بالنسبة للعديد من النساء المغربيات، إن لم تكن كل النساء، لأن الوقت تطور وأصبح هناك وعي بالمسؤولية".
ولذلك قبل اتخاذ قرار الإنجاب وتكوين أسرة، فكر في تهيئة الجو الأسري المستقر، وهو ما يبدأ عادة باختيار الزوج لزوجته واختيار الزوجة لزوجها، فمن الضروري أن يتطبع الطفل بطباع أمه، فالحياة الزوجية لا بد أن تكون محرابا من محاريب العبادة.
2-كيف نطالب أبناءنا بما لا نفعله؟ وكيف نطالبهم بالتغيير ونحن لا نقبل أن نغير أنفسنا؟ وهذه دعوة صريحة مني لكل شاب وشابة مقبلين على استقبال مولود جديد بأن يغيروا من أنفسهم ومن عاداتهم مصداقا لقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (3) ومثاله نجد آباء يشاهدون في التلفاز أشياء لا يصح مشاهدتها فنجدهم يقولون لأبنائهم لا تنظروا، هذه مشاهد للكبار وليست للصغار، وهذا خطأ كبير مصدقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أوينصرانه أو يمجسانه...) إن الله يهبنا أولادنا على الفطرة لكننا نحن بأخطائنا التربوية نشوه تلك الفطرة.
3-وبحكم مادة التربية الإسلامية التي أدرسها، فإنني أنظر إلى عينات التلاميذ المتعاقبين عليّ سنة بعد سنة، وألاحظ ضعف همتهم في حفظ القرآن، ولذلك ينبغي أن نحث أبناءنا على حفظه، فالرسول الكريم صلوات الله عليه يقول (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس يوم القيامة تاجا من نورضوؤوه مثل ضوء الشمس)، فما أحوج أجيالنا المغربية إلى حفظ القرآن الكريم لأنه مشروع قومي إسلامي لتحضير الأمة لصناعة جيل واعد، فالأمر لا يقتصر على الحفظ بل على حفظ مستقبل هذه الأمة بأكملها. (4)
4-للأسر المغربية دور كبير في تنمية عادة القراءة لدى أبنائها، فتنمية هذه العادة من أكبر العوامل التي تُسْهِم في تكوين شخصية سوية، إنها وسيلة لتنمية المهارات والقدرات وإثراء المفاهيم، فالشخص الذي يقرأ، قادر على تحقيق التطور الذاتي في مختلف مناحي أنشطته ومعرفته، وعليه، يتعين على الأسر أن توثق صلات أبنائها بالكتب، وتزرع في نفوسهم حب المعرفة، فيكبرون وهو مقتنعون بالمقولة الحكيمة (وخير جليس في الأنام كتاب) (5)... إنها بذلك تهيئهم للانفتاح والفهم السليم للعالم من حولهم.
وختاما، فإن كلا من الأسرة والمدرسة، في حاجة اليوم إلى تعديل سبل تواصلهما مع أبناء هذا الجيل من أجل تحسيسهم بالأمان، ولن يتحقق ذلك ما لم يحصل التآزر والتوازن بين مخاطبة وجدان الشباب وضخ جرعات كافية من الحب والثقة في نفوسهم، وبين مخاطبة عقولهم، ومراعاة كيفية رؤيتهم للعالم والإجابة عن الأسئلة التي تؤرقهم وتشكل سقفا لانتظاراتهم، وهي أسئلة تتجاوز مسألة الهوية إلى العيش الكريم والتمتع بالمواطنة الحقة.
لائحة المراجع
1 سورة آل عمران الآية 165
2 د. عبد الكريم البكار، بناء الأجيال، الطبعة الأولى1423 ه-2002م، سلسلة تصدر عن مجلة البيان، مكتبة الملك فهد الوطنية الرياض ص 177(بتصرف)
3 سورة الرعد الآية 11
4 د.ياسرنصر، 10رسائل لكل أب وأم، الطبعة الأولى 2009م-1430ه، مؤسسة بداية(بتصرف)
5 موزة المالكي، أطفال بلا مشاكل زهور بلا أشواك، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت ص114
عندما يتزوج أي رجل فإنه يهدف بذلك إلى تكوين أسرة، ويقترن غالبا مفهوم البيت والأسرة بوجود الأبناء، وبمعنى آخر، فالأسرة كيان يتم بناؤه من أجل الوصول إلى أهداف معينة، أهمها إنجاب الأبناء وتربيتهم، والواقع أن تربية الأبناء ليست بالأمر السهل، بل هي مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأسرة، بحيث يتطلب الأمر الكثير من الجهد والتخطيط، فإذا ابتغى الوالدان التوفيق في تربية أبناء صالحين وبناء مستقبل واعد لهم، فإنه ينبغي عليهما تحديد أهداف تربوية معينة ومعرفة الوسائل والطرق اللازمة لبلوغ تلك الأهداف، ويشكل ذلك برنامجاً تربوياً متكاملاً، عليهما تربية أبنائهما وفقه. فالوالدان اللذان لا يفكران في تربية أبنائهما لا يحق لهما انتظار المعجزة والمستقبل من أبنائهما، فكما نسمع في مجال الزراعة مصطلحات كالري والغرس وجني الثمار، ففي عملية التربية والتعليم أيضاً ما يشابه ذلك، أي أن الأبناء يعتبرون الثمار الناتجة من الجهود التربوية للوالدين.
فالتعاون بين الأسرة والمدرسة من أهم الركائز الأساسية التي تساعد المدرسة على القيام بوظائفها، حيث أنها مشاركة قائمة على الشعور بالمسؤولية الإجتماعية وهو ليس شعورا عقليا فحسب وإنما شعور عاطفي وخلقي، أي أنها مشاركة في كل ما يتصل بالحياة المدرسية بصفة عامة.
وبحكم الفطرة، يحرص الوالدان على توفير أفضل الظروف للنمو المتكامل لأبنائهما، وقد يتمثل هذا الحرص في متابعة أداء الأبناء لواجباتهم المدرسية واستمرار انتظامهم في الدراسة. وعلى الرغم من أهمية هذه الأمور، إلا أنها لا تعني كل أشكال التعاون والمشاركة بين البيت والمدرسة.
إن الوضع الأسري يؤثر تأثيرا مباشرا على الشقين المعرفي والنفسي للتلميذ، مما يؤكد العلاقة القوية والمؤثرة بين الأسرة والمدرسة، فالطفل عندما يكبر يرى أنه أصبح كياناً مستقلاً، وربما بلغ به الأمر أن يرى كل كلمةِ نصحٍ من والديه، تُوَجّه إليه، أو رأيٍ يُقدَّم له، عدواناً على كيانه، وانتقاصاً من مكانته!
ويزداد الأمر خطورة حين ينشط المروّجون لتحطيم الأسرة، الذين يُثيرون مشاعر الصراع بين الرجل والمرأة، أو بين الآباء والأبناء... يصوّرون تحقيق وجود أيّ فريق لا يكون إلا بقهر الفريق الآخر، وإذاً لا يستطيع أبناء الجيل الناشئ من النجاح إلا إذا تجاوزوا آباءهم وأهملوهم وعقّوهم!
وفي هذا قطع لوشائج المودة والإحترام، وتنكُّرٌ لفضل الوالدين على أولادهم، وإهدار للخبرات التي اكتسبها الكبار من تجاربهم، ويُريدون أن يُفيدوا بها أولادهم.
صحيح أن الحياة في تطوّر مستمر، وأنّ سيل العلوم والمعارف متدفّق، وأن لدى الجيل الصاعد من هذا السيل ما لم يكن لدى الآباء...لكنّ الأصح أيضا، هو أن نهر العلوم متواصل عبر الأجيال، وأنّ أي جيل يكون مخطئاً وجاهلاً وعاقّاً إذا ظن أن ذكاءه وجهوده هي التي أوصلته إلى ما هو فيه من غير استفادة من علوم السابقين، فضلاً عن أن خبرات الحياة وأصول التعامل وفهم مجريات الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أكبر من أن يصنعها فرد أو أفراد أو جيل واحد من الأجيال.
إن أطفال اليوم ليسوا أكثر ذكاء من جيل والديهم، ومن المؤكد أنهم يمتلكون معظم تلك التفاهات الإلكترونية المحشوّة في أذهانهم، ولكن لا بدّ أن نلاحظ حجم التضحيات التي بذلوها في سبيل التخلي عن امتيازاتهم. وأحد هذه الامتيازات المفقودة هو أنهم لا يقرؤون إلا ما ندر. ويُعدّ ذلك بحدّ ذاته عملاً إجرامياً. كما أن أفراد الجيل الجديد لديهم البدائل التي تقوم بالتفكير نيابة عنهم. وعلاوة على ذلك، بوسعهم اصطحاب الهواتف النقالة إلى قاعات الامتحان، فيما لم يكن يُسمح لوالديهم سوى إحضار الآلة الحاسبة.
غير أن أهم امتياز تنحّى عنه هذا الجيل يتمثل في عدم مقدرته على الإبداع، أما الجيل القديم فلم يكن لديه الكثير ليشتّت تركيزه الذهني. ولذا فقد امتاز بالابتكار والقناعة بما هو موجود، واستحداث الحلول لمشكلاته الحياتية بمهارة فائقة، وقد اختفت هذه السمات برمّتها في أفراد الجيل الجديد.
وربما كان الجيل القديم آخر جيل يؤمن بنظرية "إصلاح ما يتوقف عن العمل". وقد اعتاد الجيل المذكور على إصلاح ما يمتلكون والاعتزاز بذلك. وفي الوقت الراهن، يُعدّ إصلاح الأعطال أمراً من الماضي، ويُمكن ببساطة استبدال كل شيء وليس هناك أسهل من شراء طراز أحدث. إذ لم يعد هذا الجيل بحاجة إلى إصلاح ما يتعطل. وكذلك فإنهم يفتقرون إلى الصبر الذي يعين على وضع الأمور في نصابها الصحيح، مما يدلّ على انعدام المرونة لديهم.
إن أمهات وآباء الجيل القديم كانوا يتمتعون بقدر أكبر من الاستقلالية، رغم أن الجيل الجديد يعتقد بأن مجال حرية التصرف لديه غير مسبوقة. وعلى وجه الدقة، فإن مسألة حرية التصرف هذه ليست صحيحة. فالوالدان اللذان ينتميان للجيل القديم منحا الأولاد والبنات مجالاً أوسع ليطوروا أنفسهم، لأن المنافسة في السابق لم تكن شرسة كما هي عليه الآن. أما في أيامنا هذه فإن مرحلة الطفولة قد قصُرت، وسنوات المرح والتسلية أصبحت محدودةً جداً، إذ يتم إقحام هؤلاء الأطفال في صراع محموم قبل الأوان. وعليهم أن يتنافسوا بشدة مع الآخرين مع المتابعة الصارمة من جانب الوالدين.
وبالنسبة لآباء الجيل القديم وأمهاتهم، فلم يكونوا منهمكين إلى هذا الحد في حياة أطفالهم، إذ أن الحاجة إلى متابعة الأطفال خوفا من الفشل في الحياة كانت منتفية. وهذا الضغط الذي يتعرض له أبناء هذا الجيل جعلهم يفتقرون إلى الذكاء، فهم يشبهون بعضهم كثيراً ويتكلمون بأسلوب المنطق ذاته.
تعتقد أجيال اليوم بأنها دائنة للآخرين بشيء ما وتطالب به على الدوام، ومن المحتمل أن يكون ذلك من العوامل التي ساعدت على تشكيل هذا الجيل المتعثر الذي يعوزه الذكاء. أما أطفال الجيل القديم فكانوا أطفالاً عظماء في مرحلة طفولتهم. ومع مرور الزمن، أصبحوا آباء دون أن يكبروا فعلياً.
وربما مرد هذه الحالة التي يعيشها هذا الجيل والمدرسة المغربية أيضا إلى عدة تحديات يمكن أن نجملها في الآتي:
1-حضارة غير مواتية: ليست أمة الإسلام هي التي تصنع الحضارة اليوم، وليست هي التي تصوغ لأمم الأرض شروط العيش الكريم، ولا معايير التقدم والارتقاء. إنها مشغولة بمشكلاتها الخاصة، ومرتبكة في التعامل مع الوافدات الأجنبية التي تفد إليها من كل مكان. وهذا يعني أن جزءا من مشكلات التربية والتعليم في المغرب يعود الى أن الفضاء الحضاري الذي يكتنف كل أنشطتنا التربوية، هو فضاء غير منسجم وغير ملائم مع جوهر الرسالة التربوية التي نقوم بإيصالها إلى الأجيال الجديدة.
وإلى جانب هذا تشيع ثقافة تساوي على نحو متزايد بين الثروة المادية والقيمة الشخصية، فالذي لا يملك شيئا لا يساوي شيئا، والذي يملك الكثير يساوي الكثير، وبما أن الوظيفة تحتاج إلى شهادة والشهادة تحتاج إلى نجاح، فقد حل السعي لدى تلاميذ الثانويات وطلاب الجامعات إلى الحصول على النجاح محل الإهتمام الأصيل بالعلم، مما أدى الى صبغ النشاط العلمي بالصبغة التجارية في كثير من الأحيان، وصار كثير من التلاميذ المغاربة لا يبذلون في سبيل العلم إلا ما يؤمن لهم النجاح، وتفريعا على هذه النظرية المادية، صار كثير من الشباب يعتقدون أن السعادة شيء يمكن الحصول عليه بالمال، وهذا ما دفع كثيرا من الشباب المغربي إلى إدمان أنواع عدة من المخدرات، كما دفع قسما آخر منهم إلى الإهتمام بالمظهر والشكل، ومحاولة الظهور بالإنتماء إلى شريحة أعلى من الشريحة الحقيقية التي ينتمون إليها. إن مضمون الرسالة التي يتلقاها الشباب المغربي اليوم يقول: اسرح وامرح واضحك واستمتع ما استطعت ولا تأبه كثيرا للعواقب.
وكان كل ذلك على حساب الرؤية الإسلامية التي تنظر إلى السعادة على أنها شيء يتفجر في داخل الإنسان نتيجة انسجام سلوكه مع معتقده، ونتيجة تحرره من استعباد المادة والشهوة.
إن الغرب ينشر ثقافة إباحية جعلت كل شيء مكشوفا أمام الأجيال الصاعدة، وصار الطفل المغربي يفقد براءة الطفولة في وقت مبكر جدا، مما جعله يعيش تحت وطأة مشاعر جنسية ليس مؤهلا للتعامل معها والسيطرة عليها. أما الأفلام والروايات (البوليسية) فإنها تدخل الأطفال في وقت مبكر في عالم الجريمة والعنف، وتجعلهم يعتادون على حوادث القتل والسطو والاغتصاب وصار كثير منهم يقلد ما يراه ويمارسه بل ويطوره. وحين استدبرت الأسر المغربية الوحي وقطعت صلتها بجوهر رسالات السماء، سيطرت عليها روح العدمية واليأس، وصار كثير من أبنائها يشعرون بانسداد الآفاق وباليتم الروحي. ومع كثرة المحاولات التي تبذل من طرف الجهات المسؤولة في المغرب لإشاعة روح التفاؤل إلا أن هذه الأجيال المغربية المتعاقبة تقابل كل تلك المحاولات بالتهكم والإستهزاء مع أن تلك الأشياء التي وفرت لهذا الجيل لم تكن متوفرة للجيل السابق. إن الجيل المتهكم، الذي يسخر من كل المثل العليا والأهداف السامية، لهو في طريقه إلى أن يفقد إيمانه بكل شيء، حتى ثقته بنفسه، وذلك يعني الصيرورة الى التلاشي الكامل! وترتب على موقف الاستهزاء والتهكم ذاك، عدم الشعور بالمسؤولية سواء اتجاه أساتذتهم أو والديهم أو...ومن وجه آخر فإن التغيرات السريعة غرست في أعماق الناشئة مفهومات التقادم والزوال، إذ مادام كل شيء يتبدل ويختفي ويزول –وصناعة الحاسوب تقدم نموذجا على ذلك-فما معنى الإصرار على المحافظة على القيم والمبادئ القديمة.
إن المرء من دون قيم يسعى إلى تحقيقها في حياته تلفه مشاعر الحيرة والإضطراب وهو يعيش في وطنه وبين أهله، حيث تتحول الأشياء التي ينتجها الإنسان كي تكون في خدمته إلى أشياء تتحداه وتهدد وجوده. بل إن (اريك فروم) يرى أن عطاءات الإنسان تتحول في حالة الإغتراب إلى أصنام يعبدها، وإلى أوثان يسجد لها، فالوثنية في نظره تشكل جوهر الاغتراب.إن كل ذلك يحدث بسبب الإستمرار المكثف في التقنية، وبسبب الإعراض عن الاستثمار المكثف في المجالات الأخلاقية والاجتماعية.
هذه الوضعية المخيفة تشكل البيئة الثقافية والحضارية التي يحيا فيها الإنسان المغربي وسط الدول الصناعية الكبرى. وقد أخذت رياح الغرب تعصف بخيامنا، وتسمم جذور الحياة الفردية والاجتماعية في بلدنا. وصار على الأسرة والمدارس المغربية أن تتجاوز مسألة تلقين الأجيال الجديدة القيم والمبادئ الإسلامية، إلى إقناعهم بها وإزالة الشبه والالتباسات التي تثار حولها، أي أن المشكلة تتحول من أن تكون تربوية إلى أن تصبح فكرية معرفية، يتجسد فيها نوع من الصراع بين الناشئة وذويهم. وهذا يشكل تحديا يصعب التغلب عليه في كل حين!
وإذا تجاوزنا التحديات الوافدة التي تعرقل الأعمال التربوية، إلى النظر لمشكلاتنا الداخلية ،وجدنا أننا نعاني قصورا في المفهومات، وضعفا في الإمكانات، في الكثير من مجالات الحياة، وهو ما ينعكس سلبا على الاهتمام والحافزية، سواء لدى المتعلم ـ على سبيل المثال ـ أو لدى المدرس، إذا قاربنا المسألة في السياق التربوي، فقلة قليلة من المتعلمين، هي التي تبدي اهتماما بما يقدم إليها، وقلة قليلة جدا من المدرسين هي التي تسعى إلى تطوير أدائها، في مقابل جيش عرمرم من المدرسين الذين يستمرئون الرتابة وإعادة إنتاج التخلف.
2-وسائل تثقيف منافسة: كان الناس في البيوت يربون في بيئة محدودة شبه مغلقة، وكانت المدرسة المغربية تمارس التربية والتعليم دون أي منافسة تذكر من أي جهة، فما تقدمه دائما مقبول، أو هو أحسن ما يمكن الحصول عليه. إنها كانت أشبه (ببقالة) وحيدة في قرية صغيرة وليس أمام المواطنين سوى الاقتناء منها، وليس في أذهانهم آفاق واسعة لتطويرها، ولا بين أيديهم إمكانات لتجاوزها، وفجأة إذا بعشرة أسواق (سوبر ماركت) تنتشر في أنحاء القرية، وفي كل سوق أشكال عدة من كل صنف تعرضه البقالة المتواضعة. وقد حار صاحب البقالة في أمره، فهو لا يعرف الأسباب التي جعلت عملاءه المعتادين ينفضون عنه فجأة، كما لا يعرف بالتالي كيف يستعيدهم! هذا ما تواجهه مدرستنا المغربية اليوم، بل في معظم أنحاء العالم.
فكلما قفز العلم قفزة على صعيد البث والاتصال وشبكات المعلومات وأوعيتها، فقدت المدرسة المغربية شيئا من وظائفها وشيئا من بريقها، حيث إن الحقيقة في أية مادة أو تخصص لم تعد ملكا للأستاذ وحده، ولم يعد أكبر المفتين فيها، فقد صار في إمكان التلميذ المغربي أن يبحر عبر شبكات المعلومات ليجد حول كل قضية أضعاف أضعاف ما في كتابه المدرسي أو ما لدى أستاذه.
3-القصور الذاتي للمواطن المغربي: مضت سنة الله تعالى في خلقه أن تكون المعاناة الأساسية للبشرية في كل شؤونها بسبب ما تصنعه أياديها، فمبدأ (قل هو من عند أنفسكم) (1) واسع التطبيق والتحقق. وكل شكل من أشكال الإصلاح يتجاهل أصحابه مسألة القصور الذاتي تكون نتائجه مخيبة للآمال، ولذا فإننا نستطيع القول دون حرج: إن الكثير من المشكلات الجوهرية التي تعاني منها مدرستنا المغربية، لا تنبع من ضغوط الحضارة الغربية ولا من منافسة وسائل الإعلام، وإنما من ارتباكها حيال نظمها الخاصة ومشكلاتها الخاصة، وحيال المتطلبات الجديدة التي أملاها عليها التطور الحضاري(2).
ولا أريد أن أسترسل أكثر وأكثر في سرد التحديات التي تواجهها مدرستنا المغربية اليوم، والتي جعلت الأجيال المتعاقبة تعيش حالة من الحيرة، خشية مزيد من اليأس والإحباط، لكن على العموم، فإن هذه التحديات لن تنهي حاجتنا إلى المدرسة المغربية التي تمت تنشئتنا على يدها وندين لها بالفضل الكثير، بقدرما ستعقد مهمتها التربوية وتجعل تطلعات الأجيال المتعاقبة أوسع مما يمكن أن توفره إمكاناتها المحدودة.
ولا شك أنه يقع على الوالدين عبء كبير في إعداد جيل مغربي مميز، سواء في إلتزامه بالإسلام أو وعيه بدوره في الحياة، وما يجب أن يقوم به حتى يعود للإسلام مجده السليب وتسترجع أمتنا كرامتها وسابق عزها، ولذلك سأختم مقالي التربوي ببعض الرسائل التي أوجهها للأسر المغربية لعلها تلقى الصدى لدى البعض، وهي كالتالي:
1- بمجرد سماع أي زوج مغربي خبر حمل زوجته، فإن السؤال الذي يتبادر إلى ذهنه وذهن زوجته، والذي يتمثل في إعداد وتوفير ماديات الولادة والمستشفى، ومنهم من يفكر في شراء سرير للطفل قبل ولادته، وآخرون يفكرون في اسم هذا المولود، والبعض يفكرون في مستقبل الطفل ودخوله للمدرسة وكم سيكلفه ذلك...لكنني سأتطرق لإستراتيجية استقبال الطفل، فكيفية استقبال الطفل تحتاج منا لحوار طويل كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من ربى صغيرا حتى يقول لا إله إلا الله لم يحاسبه الله) ....
إن حسن التربية يعفينا من الحساب، وهذا الحديث يبين لنا مدى أهمية التربية والتي لابد أن تبدأ بتهيئة الجو الأسري المستقر، وهو ما يبدأ باختيار الزوج لزوجته واختيار الزوجة لزوجها. وبما أن الزواج عبادة، فليتخذ كل منا لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر الدنيا والدين، ولا بد أن يحدد الزوجان هدفهما من إنجاب الأطفال،وللأسف، فإن العديد من النساء المغربيات يخيل إليهن أن كثرة إنجاب الأطفال ضمانة لإستمرار الحياة الزوجية، في حين أن ذلك أحد الأسباب التي تجعل الزوجين يفكران مائة مرة قبل أخذ قرار الطلاق، أما عندما يكون للأسرة ولدان أو ولد واحد، فإن مسألة الإنفصال تكون أكثر سهولة، فعلى سبيل المثال ـ وأنا أبحث في الموضوع ـ بادرتني فاطمة، (وهي أم لثلاثة أبناء تعيش في بلدة أولاد ايعيش نواحي مدينة بني ملال) قائلة:" إن الأبناء أحيانا يكونون السبب في جعل الآباء أكثر حرصا على الحفاظ على الإستقرار". وبالنسبة لسعاد، (موظفة بنفس البلدة، لم تتزوج بعد) تقول: «عندما كنت صغيرة كنت أسمع والدتي تنصح أختي الأكبر مني سنا بأن تنجب أطفالا كثرا، من أجل ضمان استمرارية زواجها لأن الرجل على حد قولها الدارج: (ما يشدوه غير الأولاد)"، ولكنها تضيف قائلة:" أظن أن الأمر اختلف الآن بالنسبة للعديد من النساء المغربيات، إن لم تكن كل النساء، لأن الوقت تطور وأصبح هناك وعي بالمسؤولية".
ولذلك قبل اتخاذ قرار الإنجاب وتكوين أسرة، فكر في تهيئة الجو الأسري المستقر، وهو ما يبدأ عادة باختيار الزوج لزوجته واختيار الزوجة لزوجها، فمن الضروري أن يتطبع الطفل بطباع أمه، فالحياة الزوجية لا بد أن تكون محرابا من محاريب العبادة.
2-كيف نطالب أبناءنا بما لا نفعله؟ وكيف نطالبهم بالتغيير ونحن لا نقبل أن نغير أنفسنا؟ وهذه دعوة صريحة مني لكل شاب وشابة مقبلين على استقبال مولود جديد بأن يغيروا من أنفسهم ومن عاداتهم مصداقا لقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (3) ومثاله نجد آباء يشاهدون في التلفاز أشياء لا يصح مشاهدتها فنجدهم يقولون لأبنائهم لا تنظروا، هذه مشاهد للكبار وليست للصغار، وهذا خطأ كبير مصدقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أوينصرانه أو يمجسانه...) إن الله يهبنا أولادنا على الفطرة لكننا نحن بأخطائنا التربوية نشوه تلك الفطرة.
3-وبحكم مادة التربية الإسلامية التي أدرسها، فإنني أنظر إلى عينات التلاميذ المتعاقبين عليّ سنة بعد سنة، وألاحظ ضعف همتهم في حفظ القرآن، ولذلك ينبغي أن نحث أبناءنا على حفظه، فالرسول الكريم صلوات الله عليه يقول (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس يوم القيامة تاجا من نورضوؤوه مثل ضوء الشمس)، فما أحوج أجيالنا المغربية إلى حفظ القرآن الكريم لأنه مشروع قومي إسلامي لتحضير الأمة لصناعة جيل واعد، فالأمر لا يقتصر على الحفظ بل على حفظ مستقبل هذه الأمة بأكملها. (4)
4-للأسر المغربية دور كبير في تنمية عادة القراءة لدى أبنائها، فتنمية هذه العادة من أكبر العوامل التي تُسْهِم في تكوين شخصية سوية، إنها وسيلة لتنمية المهارات والقدرات وإثراء المفاهيم، فالشخص الذي يقرأ، قادر على تحقيق التطور الذاتي في مختلف مناحي أنشطته ومعرفته، وعليه، يتعين على الأسر أن توثق صلات أبنائها بالكتب، وتزرع في نفوسهم حب المعرفة، فيكبرون وهو مقتنعون بالمقولة الحكيمة (وخير جليس في الأنام كتاب) (5)... إنها بذلك تهيئهم للانفتاح والفهم السليم للعالم من حولهم.
وختاما، فإن كلا من الأسرة والمدرسة، في حاجة اليوم إلى تعديل سبل تواصلهما مع أبناء هذا الجيل من أجل تحسيسهم بالأمان، ولن يتحقق ذلك ما لم يحصل التآزر والتوازن بين مخاطبة وجدان الشباب وضخ جرعات كافية من الحب والثقة في نفوسهم، وبين مخاطبة عقولهم، ومراعاة كيفية رؤيتهم للعالم والإجابة عن الأسئلة التي تؤرقهم وتشكل سقفا لانتظاراتهم، وهي أسئلة تتجاوز مسألة الهوية إلى العيش الكريم والتمتع بالمواطنة الحقة.
لائحة المراجع
1 سورة آل عمران الآية 165
2 د. عبد الكريم البكار، بناء الأجيال، الطبعة الأولى1423 ه-2002م، سلسلة تصدر عن مجلة البيان، مكتبة الملك فهد الوطنية الرياض ص 177(بتصرف)
3 سورة الرعد الآية 11
4 د.ياسرنصر، 10رسائل لكل أب وأم، الطبعة الأولى 2009م-1430ه، مؤسسة بداية(بتصرف)
5 موزة المالكي، أطفال بلا مشاكل زهور بلا أشواك، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت ص114