اسماعيل الحلوتي
على بعد شهرين من نهاية العام 2015، ورغم ما حمله مشروع قانون المالية 2016 من خيبة أمل كبيرة، يستعد المغاربة من طنجة إلى لكويرة، للاحتفاء بالذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة، التي تأتي في ضوء تحولات سياسية عميقة، ومن بينها إجراء أول انتخابات جماعية وجهوية في ظل دستور 2011، عرفت نسبة مشاركة عالية في الأقاليم الجنوبية خاصة.
وتعد هذه الذكرى، محطة تاريخية لاستحضار ملحمة الوحدة والمسار التنموي، إذ مباشرة بعد إبداء محكمة العدل الدولية بلاهاي في أكتوبر 1975 رأيها الاستشاري، حول ما كان يربط سلاطين المغرب بالصحراء من أواصر بيعة وروابط قانونية، واعترافها بشرعية مطالب المغرب، باسترجاع أراضيه المغتصبة من نير المستعمر الإسباني، قرر المغفور له الحسن الثاني تنظيم مسيرة خضراء نحو مناطق الجنوب يوم: 6 نونبر 1975، شارك فيها 350 ألف مغربية ومغربي من مختلف الأعمار، مما يؤكد تمسك الشعب بوحدته الترابية...
ومنذ ذلك الحين، تعهدت السلطات العمومية بمؤازرة الفعاليات المحلية، على انطلاق مسلسل الإنجازات الكبرى والمشاريع السوسيو اقتصادية الهامة، حيث عرفت الأراضي المسترجعة دينامية جديدة ونهضة تنموية طالت مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، جعلت المدن تتحول إلى مراكز حضارية واعدة بالنماء والازدهار.
وتعتبر قضية الصحراء المغربية، من أقدم القضايا التي بقيت عصية على الحل منذ الحرب الباردة، رغم توفر المغرب على حجج تاريخية قوية وقوانين دامغة تثبت سيادته على صحرائه، بسبب تعنت عصابة "البوليساريو" وراعيتها الطغمة العسكرية الجزائرية الفاسدة، التي تدعمها سياسيا ودبلوماسيا، ناهيكم عن التمويل والتسليح، لا لشيء سوى أنها لا تريد للمغرب أن يكون دولة قوية.
وإذا كان مبدع المسيرة الخضراء الراحل الحسن الثاني، قال: "إن خسارة الصحراء تساوي خسارة العرش المغربي"، فقد قال خلفه الملك محمد السادس: " إن الصحراء قضية وجود وليست مسألة حدود"، مما يعني ألا بديل عن مغربية الصحراء مهما كلف الأمر من تضحيات جسام، متجاوزا بذلك ما شاب التدبير السياسي للملف من أخطاء قاتلة، كادت تعصف به في أكثر من مناسبة لولا الحكمة والتبصر المغربيين، إزاء المناورات والمؤامرات الخسيسة لأعداء الوحدة الترابية، وبعض الخونة الصحراويين، ممن تعوزهم روح المواطنة الصادقة...
فلا غرو اليوم، أن نجد ملك البلاد يؤسس لمسيرة حضارية ثانية، قوامها الإيمان بعدالة قضيتنا والإرادة الوطنية الصادقة، حيث أبى إلا أن يرفع التحدي أمام النزاع المفتعل، عندما تقدم المغرب بشجاعة خلال عام 2007 مقترحا منح سكان الصحراء المغربية حكما ذاتيا، لقي تأييدا واسعا في الأوساط الدولية ومن قبل مجلس الأمن في الأمم المتحدة، باعتباره منعرجا تاريخيا وسياسيا يرمي إلى إيجاد تسوية نهائية ودائمة للخروج من المأزق القائم، يحفظ له سيادته ووحدة أراضيه وخصوصية المنطقة، بدل الدفع بها صوب المزيد من التأزم، في خضم التحولات الدولية والإقليمية.
والمقترح خطوة إيجابية في اتجاه استكمال البناء الديمقراطي والمؤسساتي، يقوم على أساس صيانة الحقوق الثابتة وفتح آفاق التنمية الشاملة، والتطور الاجتماعي والتضامن الوطني وتعزيز السلم والاستقرار، وجعل الساكنة الصحراوية قادرة على تدبير شؤونها المحلية، بتفويضها اختصاصات منطقتها، وتأهيلها لبعث الروح في الاتحاد المغاربي حتى يضطلع بأدواره جيدا في محيطه المتوسطي ويقوي علاقاته مع دول الساحل الإفريقي، لتحصين ضواحي شمال إفريقيا من مخاطر الإرهاب الدولي.
فدستور 2011، راهن على بناء نظام جهوي ذي خصوصية مغربية، يرتكز على جهوية موسعة كخيار استراتيجي، يهدف إلى تحقيق التنمية وتغيير نمط التدبير الإداري، بمقاربة تشاركية تراعي التعددية والخصوصية المحلية بشكل يتوافق مع القوانين الدولية. والجهوية تحظى باهتمام واسع، ليس فقط بالنسبة للسلطات المغربية والقوى السياسية والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والهيئات المنتخبة، بل في أرجاء العالم، باعتبارها إطارا هيكليا مناسبا لبلورة استراتيجية بديلة للتنمية، ومن بين الدول التي اعتمدتها إلى جانب كل من ألمانيا في دستور 1949 وإسبانيا في دستور 1978، هناك إيطاليا في دستور 1948، حيث نجح نموذج منطقة "ترينتينو ألتو أديجي" الواقعة شمال إيطاليا في الحدود مع دولة النمسا، المقدر عدد ساكنتها بمليون نسمة، التي تحررت من فقرها وأصبحت من بين أغنى مناطق أوربا..
وإذا كان المغرب قد عرف سياسة اللامركزية في بعدها الجهوي من خلال دستوري 1992 و1996 وقانون تنظيم الجهات 47_96 في أبريل 1997، فقد جاء دستور 20011 بأبعاد وتدابير أكثر عمقا، وعيا منه بأهمية النظام الجهوي في تحقيق التنمية المحلية، مما قد يجعل مشروع الحكم الذاتي قابلا للتنفيذ، على غرار العديد من التجارب الدولية الناجحة. إذ بإعطاء الصحراء صلاحيات تدبير شؤونها تحت السيادة المغربية، سيؤدي حتما إلى إحداث تغيير جدي نحو بناء مغرب عصري وقوي. ومن المؤكد أن الجهوية، من الآليات المساعدة على تحقيق تكامل اقتصادي وإداري وتنموي، لتقليص دور الدولة والحد من تدخلاتها في بعض المجالات، والنهوض بقدرات الجهات الاثنتي عشرة بالبلاد، وهي إحدى آليات كبح جماح البيروقراطية وتقريب القرار الإداري من مكان تنفيذه، كما تمكن ممثلي السكان من التداول بكيفية ديمقراطية في الجماعات المحلية والهيئات الاجتماعية.
ويأتي ورش الجهوية الموسعة كإصلاح شامل للامركزية الجهوية، تمهيدا لمعالجة ملف الصحراء والخروج من نفق السياسات المركزية الموحدة. فسياسة الجهوية واللامركزية من المكونات الأساسية للأنظمة المعاصرة، وتختلف من بلد لآخر حسب خصوصياته. وإذا ما أراد المغرب تكريس وحدته الترابية، فينبغي له الحرص على تطوير مشروعه الديمقراطي، والقيام بتعبئة شاملة، سيما أن هذا الورش يشكل مرتكزا أساسيا للانتقال الديمقراطي، وأن بمقدور الاستقلال الذاتي شحن المغاربة بالحماس الوطني، والإسهام في ضمان السلم والاستقرار الاجتماعي والسياسي. والارتقاء بالديمقراطية المحلية واللامركزية، سيجعل من الجهوية المتقدمة مدخلا رئيسيا لاستكمال وحدتنا الترابية في إطار حكامة محلية جيدة، ويحافظ على هويتنا وأصالتنا، فضلا عن علاقاتنا الخارجية.
وتعتمد الجهوية الموسعة في بنائها السياسي والدستوري، على مجموعة من الأسس الضرورية لخلق ديمقراطية حقيقية، تنعش الحريات العامة وتحترم حقوق الإنسان وتعزز الحوار الهادف، في إطار مقاربة تشاركية تشجع على المبادرة والابتكار، انطلاقا من خصوصية المملكة كنظام عريق في العالم...
ويقتضي إنجاح ورش الجهوية الموسعة، الذي أراده الملك خيارا استراتيجيا، لتحقيق تنمية منسجمة ومتوازنة، تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية والموارد المالية والبشرية لكل جهة على حدة، تضافر جهود جميع الفعاليات الوطنية والمنظمات السياسية والنقابية والحقوقية، ومختلف وسائل الإعلام... وتوفير الشروط الذاتية والموضوعية، وتأهيل النخب الصحراوية، مادامت الأقاليم الجنوبية هي المستهدفة بنمط الحكم الذاتي، مما قد يعين سكان مخيمات تندوف على استيعاب مضامين المقترح كأنجع الحلول للصراع المختلق. لكن، هل برصد مشروع قانون مالية 2016 أربعة ملايير درهم للجهات، كاف لضمان انطلاقتها وممارسة اختصاصاتها على الوجه المطلوب؟