الغش في الباكالوريا...غش المدرسة من غش المجتمع والدولة

يوسف كريم              

 امتحانات الباكلوريا هذه السنة تحت حراسة مشددة..هذا على الأقل ما يستشف من تصريحات مسؤولي وزارة التربية الوطنية وهم يؤكدون على مجموعة من الإجراءات الصارمة من أجل ضمان تنظيم هذا الاستحقاق الوطني الهام في ظروف جيدة، كما انخرطت السلطات العمومية والترابية ووسائل الإعلام الوطنية في التعبئة و في مواكبة مختلف محطات هذا الامتحان..
 وكالعادة،احتل موضوع الغش ومحاربته جزءا كبيرا من هذه"البروباغندا"، من خلال الحديث عن تبني قواعد أكثر صرامة وعن آليات للحماية والردع تضمن مصداقية النتائج ومبدأ الاستحقاق،فقد  تقرر،كماجاء في بلاغ للوزارة الوصية،" تزويد المراقبين والمشرفين على إجراء الاختبارات بأجهزة الكشف عن الهواتف النقالة والوسائط الإلكترونية الأخرى المحظور حيازتها داخل الفضاءات المخصصة للامتحان خلال اجتياز الاختبارات، وذلك بمقتضى القرار الوزاري رقم 2111.12 الصادر في الموضوع بتاريخ 31 ماي 2012"...
غير أن ظاهرة الغش في الامتحان لا يجب أن ينظر إليها كحالة معزولة تهم التلميذ فقط،بقدر ما تسائلنا جميعا كفاعلين وكمدبرين للقطاع وكحكومة وكمجتمع مغربي،بحيث يستدعي الأمر اعتبارها حالة مجتمعية.وإذا كان لابد من إلقاء اللوم على التلميذ في الباكالوريا وذلك من باب"شفتونا غير حنا"،فيجب أن يتم ذلك بمنطق"إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض"،أي أن التلميذ يغش في الباكالوريا، لأنه طوال سنوات تحصيله ظل يخدع ويسمح له بالانتقال من مستوى إلى آخر دون أن يتوفر على أي إمكانية معرفية أو تحليلية أو مهارية أو إبداعية. فقط استنادا إلى المنطق الحسابي للخريطة المدرسية ودونما اعتبار لمنطق الجودة،وهذا المنطق أفرز في النهاية تلميذا في السنة باكالوريا نهائي لكن بمستوى تلميذ في الابتدائي..
  يغش التلميذ في الباكالوريا،لأن السياسة التعليمية بالمغرب لا يمكن أن تنتج لنا إلا الغش والغشاشين،فقد تدهورت صورة المدرسة العمومية في الوعي الجماعي واهتزت قيمتها كمؤسسة اجتماعية وتربوية لا تؤهل لا للاندماج المجتمعي ولا للارتقاء الاجتماعي،وذلك بعد أن تسلل إلى الفصول الدراسية أناس لا يعرفون مبادئ التربية،ودخل إلى قاعات الدرس قوم جهلة أميون،وكسالى مقعدون،ومرضى نفسانيون يلبسون وزرات بيضاء ويصرفون عقدهم على أطفال أبرياء. لذلك فكل حديث عن الغش في الباكالوريا،وكل محاولة لتحسين موثوقية ومصداقية هذه الشهادة،يجب التعامل معها كمن يأمل الحصول على ماء صاف في المصب،وينسى أو يتناسى الاوساخ المتراكمة منذ المنبع..
يغش التلميذ في الباكالوريا،لأنه منذ سنواته الأولى في الابتدائي تطبع على أساليب الغش ومسلكياته،إذ أن "معلمه"و(مربيه) يشجعه على نقل الدروس والملخصات والتمارين جاهزة دون أن يحقق الحد الأدنى من التعلمات. وفي أول محطة يمتحن فيها لنيل شهادة الدروس الابتدائية،لا يستشعر التلميذ أي مجهوذ مبذول ما دامت تملى عليه الأجوبة وفي أحسن الأحوال ينقلها مكتوبة من على السبورة، وهي ممارسات وسلوكيات لا تثير أدنى حرج ل"مدرسيه"،ماداموا هم بدورهم يمارسون الغش في" امتحاناتهم المهنية" بشتى الطرق والوسائل في وضع وضيع يعكس المستوى المخجل الذي هوى إليه العديد من العاملين في صفوف طباشيري آخر زمن..
في مستوى الثانوي التأهيلي يتخذ الغش مظهرا جديدا من خلال التطبيع مع أساليب الارتزاق ومسلكيات الابتزاز البعيدة كل البعد عن حقل التربية والتعليم ومبدأ تكافؤ الفرص،فقد وصلت الصفاقة وقلة الحياء ببعض(الأساتذة )إلى القيام بتنظيم دروس إضافية خاصة(السوايع) داخل "كراجات"،  مجبرين تلامذتهم على متابعتها مقابل أجرة معينة.وغير خاف أن هذا العمل من شأنه أن يساهم في خلق عدة مشاكل تتمثل في إحراج أولياء التلاميذ وخاصة الضعاف منهم الذين لا تسمح لهم ظروفهم بتسديد المبالغ المطلوبة،علاوة على أن هؤلاء الأساتذة المنظمين لتلك الدروس الإضافية غير القانونية يجنحون إلى التقصير في القيام بواجبهم داخل الفصل.أليس هذا نوع من الغش؟أليس من حق التلميذ أن يغش لأن بعض أساتذته يغشون أو على الأقل يشجعون على ذلك؟بل كيف ينتظر المجتمع المغربي أي ضرب من الإصلاح في ظل هذا الوضع المتردي والمسخ المعمم حيث باتت قيم النزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص حديث خرافة عند بعض المدرسين الذين يعيدون إنتاج نفس الظواهر التخريبية التي أضحت جزءا من ميكانيزم عام يجد قبوله ويفرز تمثلاته كواقع موضوعي..
لكن لماذا يغش الأستاذ؟لأن العديد من الأكاديميات والنيابات الموكول إليها عملية تدبير الشأن التعليمي جهويا وإقليميا ومحليا تمارس الغش وتكرسه في كثير من ممارساتها وذلك بتسويقها صورة زائفة عن الوضع التعليمي بهكذا جهة أو إقليم،وتخفي حقيقة الوضع المزري والمتردي الذي وصل إليه الشأن التربوي بالمؤسسات التعليمية،كما أنها تقول بالجودة وبمبادئ الشفافية والنجاعة والوضوح والفعالية والمسؤولية وإرساء مقومات الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة،لكن الواقع العملي يبين أن لا وجود لهذه المبادئ إلا كخطاب استهلاكي أو كشعار موسمي،فالعديد من النيابات تشكو فسادا إداريا،وزبونية ومحسوبية،وتعرف خروقات وفضائح في بعض مصالحها،وتعاني ضعفا في التدبير الاداري،وتتمسك بعقلية التسيير البيروقراطي،وترتكب تجاوزات قانونية، وتكرس منطق الريع في الاستفادة من الانتقالات والامتيازات والتكليفات ضدا على الشفافية وتكافؤ الفرص في زمن كثرث فيه شعارات محاربة الفساد وعن وجود العفاريت والتماسيح..
لكن لماذا تغش الأكاديميات والنيابات؟لأن قطاع التربية والتكوين مليء بالمتناقضات،ولا يعرف غير لغة الغش حين يتحدث مسؤولوه عن أرقام وإحصاءات ومنجزات،وعن تسطير برامج إصلاحية وصرف ميزانيات ضخمة،وفي الأخير يتم التسويق لنجاحات وهمية لمنتوج لا يستهلك أبدا. إن حكاية ماسمي ب"المخطط الاستعجالي" تكشف هذه الحقيقة المرة،فقد إلتهم هذا المخطط ماقيمته 41 مليار درهم،وهو رقم مالي شكل وقتها28 في المائة من ميزانية الدولة و7 في المائة من الناتج الداخلي الخام،لكن حجم المنجزات المحققة لم يرق إلى مستوى الإمكانات الفلكية الضخمة التي رصدت له،فتوقف في منتصف الطريق دون أن يأخذ حقه من التمحيص والتقييم والتأمل والدراسة..
لماذا يغش التلميذ إذن؟لأن جميع الفاعلين والمتدخلين في منظومته يمارسون الغش أو يتغاضون عليه،من الأستاذ في قسمه إلى القطاع في مخططاته واستراتيجياته..
إلا أن المثير في الموضوع،والذي ينسى الجميع إثارته كلما أثيرت مسألة الغش في الامتحانات، هو أن الغش ليس صفة خاصة بالمنظومة التربوية فقط،بل يستدعي اعتباره مشكلة حقيقية تندرج في سياق مجتمعي عام،وتوجد في عمق منظومة قيمنا،وفي صلب السياسات العمومية والاختيارات الكبرى للدولة ويتعشش في مفاصلها في الاقتصاد ،كما في القضاء،كما في السياسة.صناديق فاسدة وقضاء فاسد ونخب وأحزاب فاسدة.وبكلمة واحدة،فالغش ظاهرة بنيوية سيكولوجية وثقافية تجد جذورها في المجتمع الكبير الذي لا يؤمن إلا بقيم الغش والتدليس..
في المغرب هناك صندوق أسود اسمه"صندوق المقاصة"،وهو صندوق بملايير الدراهم،أنشئ في سياق فلسفة اجتماعية تروم دعم البسطاء والفئات الفقيرة والأسر المعوزة، لكنه دعمه لا يصل إلى أصحابه إلا في حدود 15 في المائة من مجموع ميزانية الصندوق،وينتهي الباقي في جيوب الكبار و حسابات المضاربين والرأسماليين وكبريات الشركات، وقد عشنا حتى رأينا الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات، إدريس جطو تحت قبة البرلمان،في تقرير ساخن وبلغة كاشفة وصريحة ينزع أوراق التوت ورقة ورقة عن عورات عدد من الوزارات والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية،بسبب ما اعتبرها اختلالات مالية طالت تدبيرها ردحا من الزمن ،وهذا نوع من الغش..
لنأخذ صندوقا آخر،هو صندوق الإيداع والتدبير،العلبة السوداء للمخزن الاقتصادي،فهذا الصندوق الذي يعتبر اكبر مؤسسة عمومية في المملكة به من الودائع ما يفوق 100 مليار درهم،علاوة على الأموال الذاتية للصندوق والتي تتجاوز 13 مليار درهم،وبالتالي فمن الطبيعي أن يحقق رقم معاملات بملايير الدراهم،لكنه لا يربح،ويا للعجب، سوى أقل من مليار درهم في السنة،كما حصل سنة 2012 حين أعلن على موقعه الرسمي أن الصندوق لم يحقق سوى 976 مليون درهم.وهذا نوع من الغش..
في المغرب نخب وأحزاب تنادي بالديمقراطية وتجند نفسها لخدمة الشعب وتأطير المواطنين،لكن واقع الممارسة السياسية يبين أن هم أغلب الزعماء الحزبيين هو الوصول إلى السلطة للاستفادة من الريع وبيع التزكيات،فتعرت السياسة من مفهومها النبيل وتعرضت للمسخ لصالح حفنة من السياسويين ومن الانتهازيين والطامعين،وهذا نوع من الغش...
في المغرب تسوق الانتخابات كآلية للتنافس الديمقراطي الشريف،وإطار لتصريف البرامج السياسية،والقيام بالإصلاحات،ودعم التحول الديمقراطي،لكن ما نشاهده لايزيد مصداقية المجالس المنتخبة إلا اهتزازا لأنها أصبحت ريعا سياسيا وإقطاعيات عائلية وفضاء للبوليميك وسوقا لتجارة منظمة ومجالا للكسب الرخيص،فعم الفساد وتم تزاوج السلطة بالمال،وهذا نوع من الغش...
الغش إذن جزء من بنية الدولة،وجزء من نسقها السياسي،وجزء من منظومة قيمنا المجتمعية،والمدرسة في النهاية مجرد «مجتمع صغير»، يعكس ما يروج في المجتمع الكبير، والغش الذي يحيط بأسوار الثانويات و يملأ حجرات الدرس ورئات التلاميذ يأتي من الخارج و نراه في الإدارات والمؤسسات العمومية وشبه العمومية، التي ينخرها الفساد من كل جانب ، وبدل أن  نلقي باللوم على التلاميذ،يجب أن نصرخ بالفم المليان، وبالفضح العريان:كلنا ......................
 

يوسف كريم
أستاذ الفلسفة - برشيد -
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-