هذه حقيقة العمليات المالية التي تنخر الصندوق المغربي للتقاعد‎

يوم الخميس 27 دجنبر 2012، كان جميع أعضاء المجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد حاضرين لعقد اجتماع الدورة. الاجتماع بالغ الأهمية، وسط ضجيج عارم يفيد أن الصندوق معرض للإفلاس سنة 2019. الكل ينتظر أن يطل رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، في أية لحظة لترؤس الاجتماع بصفته رئيسا للمجلس الإداري للصندوق. لم يحضر بنكيران. في الواقع، لم يسبق لرئيس الحكومة أن حضر أيا من اجتماعات المجلس الإداري للصندوق.
بينما انطلق اجتماع المجلس الإداري كان بنكيران قد وصل للتو إلى منزل أستاذ بسلا تلقى طعنة بسلاح أبيض من طرف سكين. انتقلت القنوات العمومية لرصد زيارة بنكيران للأستاذ الذي يقطن بالدائرة الانتخابية لرئيس الحكومة، ونقلت انحناءه للاقتراب من الأستاذ المريض للاطمئنان عليه. هل يمكن قراءة غياب رئيس الحكومة عن اجتماعات المجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد بأنه إشارة لرفع يده عن أكثر ملفات الدولة حساسية؟ كيف يجري تدبير هذه المؤسسة بعيدا عن أنظار بنكيران؟ هل مشاكل الصندوق المالية مردها اختلال في توازن منظومة التقاعد حقا أم أن طريقة تدبير ميزانيته تساهم في تعميق مكامن العجز؟
التحقيق التالي يرصد مواطن ظل لم تكشف من قبل حول تسيير الصندوق المغربي للتقاعد.

بعيدا عن النقاشات «العالمة» حول الإصلاح «الاكتواري» لأنظمة التقاعد والأسباب البنيوية في مشاكل الصندوق المغربي للتقاعد، أكبر صناديق التقاعد بالمملكة، يبقى الصندوق المذكور إدارة مثل بقية الإدارات، بمعنى أن ما يظهر عليه من اعتلال قد يكون مرتبطا بطرق معينة في تدبيره المالي والإداري.
إدارة الصندوق لم تستقل عن التبعية العضوية لوزارة المالية إلا في 1996. منذ ذلك الحين تسير هذه المؤسسة بطريقة مستقلة، مع استمرار وصاية الوزارة المذكورة. منذ إعلان الاستقلال إلى الآن لم تكن المؤشرات تؤكد أن الصندوق المغربي للتقاعد يسير على ما يرام، حتى اللحظة التي بدأ فيها الحديث عن عجز يتهدد صناديق التقاعد، بما فيها الصندوق المغربي للتقاعد. معطيات موثقة حصلنا عليها تشير إلى أنه ليس هناك عجز بقدر ما يسجل فائض في ميزانية الصندوق، كما تتحقق أرباح غير متوقعة سنويا. هل هذا يعني أن الحديث عن عجز الصندوق في 2019 وربط ذلك بأمور مثل اتساع قاعدة المتقاعدين والاستناد في تعويضهم على معايير مكلفة، محض تهويل دافعه حجب النظر عن أمور أخرى يمكن أن تكون سببا في خراب الصندوق المغربي للتقاعد؟
 

رفاهية في عز الأزمة
خلال تقرير للمجلس الأعلى للحسابات، تم الخلوص إلى أن بين أسباب تأزم الوضع المالية بالصندوق المغربي للتقاعد ما هو داخلي، في مقدمتها القيام ببعض الاستثمارات المتسمة بالخطورة.
بين هذه الاستثمارات توظيف أموال لشراء أسهم بكل من شركة «مناجم» للصناعة المعدنية، وأسهم بالبنك الوطني للإنماء الاقتصادي. نتيجة هاتين الخطوتين كانت خسارة قدرها 92 مليون درهم، بعد أن قرر الصندوق الاحتفاظ بمساهمته في البنك المذكور رغم أنه بدأ يشهد مشاكل مالية منذ سنة 2001.
في المقابل، رصد التقرير أن الصندوق المغربي للتقاعد قرر، على خلاف تلكؤه في بيع أسهم بنك الإنماء الاقتصادي، بيع أسهم شركة «مناجم» بشكل متسرع في وقت كانت أسهم الشركة متدنية على نحو غير مسبوق. تقرير الحسابات أتى أيضا على ذكر ما وصفه بتقصير الصندوق المغربي للتقاعد في متابعة تنفيذ مشروع مقره الاجتماعي الجديد، الذي كان متوقعا تسليمه سنة 2005، على أن ذلك تأخر ما تسبب في خسارة مليوني درهم في السنة تكبدها الصندوق. على ضوء هاته المعطيات وغيرها تم الحديث عن احتمال تحريك المتابعة القضائية في حق مدير الصندوق وآخرين. المدير خرج لينفي الأمر ذاكرا أنه لم يتوصل قط بأي استدعاء للتحقيق.
لكن، هل ما ورد في تقرير الحسابات هو كل شيء؟
لتتبع كيفية التدبير المالي للصندوق المغربي للتقاعد اقتفينا أثر صرف ميزانيته السنوية التي بلغت، حتى 31 دجنبر الماضي، أزيد من 25 مليار سنتيم، والمتكونة أساسا مما يُتحصل عليه من المعاشات المدنية والعسكرية وعائدات المحفظة، ومداخيل إنجاز عمليات استثمارية وعقارية. المعاشات المدنية توفر لوحدها حوالي 60 في المائة من موارد الصندوق.
أزيد من 22 مليارا من هاته الموارد تذهب في مساهمات المنخرطين في أنظمة المعاشات المدنية والعسكرية، غير أن ما يثير الاستفهام هو أن جزءا كبيرا من الموارد يسير في نفقات تسيير إدارة الصندوق المغربي للتقاعد. على نحو دقيق أنفق الصندوق المغربي للتقاعد، سنة 2013، أكثر من 12 مليارا و700 مليون سنتيم على التسيير، ويدخل ضمن ذلك أجور الموظفين وشراء اللوازم الإدارية. رقم آخر مثير للاهتمام هو صرف نحو 4 ملايير سنتيم سنة 2013 على نفقات استثمارية.
بالعودة إلى وثائق حصلت عليها «الأخبار» فإن ميزانية تسيير إدارة الصندوق المغربي للتقاعد المتوقعة خلال السنة المقبلة تتكون من تكاليف المستخدمين، والتي ستبتلع 75 في المائة من ميزانية التسيير، وتشمل الأجور والترقيات العادية وإحداث تسع وظائف جديدة وتنفيذ مخطط للتكوين، في حين رصدت 25 في المائة المتبقية من الميزانية لنفقات أخرى بينها مصاريف كراء مقرات المندوبيات والتسيير المفوض لمقر الصندوق وتكاليف التسيير الخارجي، وضمنه النظافة والحراسة والأرشيف ونقل المستخدمين وأشغال الطباعة، فضلا عن عقود الصيانة والتواصل والمساهمات والهبات ونقل المستخدمين والتكاليف المتعلقة بالاتصالات واقتناء اللوازم المكتبية والمطبوعات ومصاريف تسيير المندوبية الجهوية. الملاحظة الجديرة بالتأمل، وفق ما تبينه الوثائق، أنه في الوقت الذي كانت الضائقة المالية تشتد على الصندوق المغربي للتقاعد كانت نفقات التسيير ترتفع على نحو مطرد، إلى درجة أن المصاريف الخاصة بالكراء والشراءات وغيرها تواصل الارتفاع الذي سيصل، وفق ما هو متوقع، نسبة 9 في المائة سنة 2015. هل الوضع المالي للصندوق المغربي للتقاعد يسمح له بصرف كل هاته النفقات؟ هل هذه النفقات أساسية ولا يوجد فيها ما يمكن التقشف فيه مثل الامتيازات والعلاوات؟
 

كشف الحساب
بغض النظر عن تفاصيل تقنية تساهم في «اللاتوازن» المالي الذي يشهده الصندوق المغربي للتقاعد، من قبيل تحمل عجز المعاشات العسكرية المقدر، وفق أرقام 2013، أزيد من 45 مليار سنتيم، يشكل عبئا على المعاشات المدنية، فإن هناك مصاريف أخرى تكمل معالم صورة الصندوق المغربي للتقاعد وتظهره كمؤسسة عاجزة.
هذا ما يتضح من خلال التدقيق في مصاريف التسيير، وفق ميزانية سنة 2014، فشراء اللوازم المكتبية والمعلوماتية يكلف لوحده أزيد من مليار سنتيم في السنة، بينما ينفق على كراء مقرات الإدارة 148 مليون سنتيم سنويا، بينما تذهب 10 ملايين سنتيم سنويا في كراء سيارات كبار أطر وموظفي الصندوق، فضلا عن 5 ملايين سنتيم تنفق فقط على واجبات التأمين عليها بينما ينفق على تأمين الموظفين أكثر من 60 مليون سنتيم في السنة.
رصدت لدراسات الصندوق المغربي للتقاعد السنة الجارية 120 مليون سنتيم، بينما ابتلع نقل المستخدمين 135 مليون سنتيم. غير أن أكثر النفقات مدعاة للانتباه هو تخصيص 25 مليون سنتيم على الحفلات ولقاءات العلاقات العامة، إلى جانب رصد 200 مليون سنتيم على المساهمات والهبات، ضمنها 50 مليون سنتيم مرصودة فقط على الهبات، دون تحديد طبيعتها، علما أنه تدخل فيها أموال دعم تمنح لبعض الجمعيات بطريقة مثيرة كما سنوضح.
حسب المعلومات التي حصلنا عليها فإن عدد موظفي الصندوق المغربي للتقاعد لا يتجاوز 420 شخصا. رغم ذلك يكلف هؤلاء خزينة الصندوق مبلغا ضخما، فعلى سبيل المثال رصد مبلغ 60 مليون سنتيم على سفريات الأطر ورحلاتهم وتنقلاتهم الوظيفية.
موظفو الصندوق كلفوا ميزانيته، سنة 2014، قرابة 9 ملايير و740 مليون سنتيم، غير أن المثير هو أن نحو ثلاثة أرباع هذا المبلغ رصد لعلاوات وإكراميات وترقيات وتعويضات مختلفة منحت للموظفين، على اعتبار أن مجموع كتلة أجورهم تتحدد في نحو ملياري سنتيم. كل هذه المصاريف لا يدخل فيها تقاعد «التكميلي» الذي يدبر على نحو إداري شبه مستقل. ألا تعتبر كل هذه المصاريف مبالغا فيها بالنظر إلى ما يروج من أزمة يعيشها الصندوق؟


من يراقب؟
من المفترض أن يصادق أعضاء المجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد، برئاسة رئيس الحكومة، على ميزانية الصندوق. الأمر يتم بدون حضور رئيس الحكومة، وعادة بدون إطلاع أعضاء المجلس على تفاصيل الميزانية. أحد أعضاء المجلس يوضح ذلك بشكل صادم قائلا: «لا نحصل على تفاصيل تدبير الميزانية السنوية. المطلوب أن نصادق على مشاريع الميزانية التي يقدمها المدير وكفى. وحينما نسأل عن تفاصيل كثيرة من قبيل المستفيدين من العلاوات الكبيرة المقررة في الميزانية، أو الجمعيات التي تحصل على هبات من الصندوق، لا نتلقى جوابا»، عضو آخر يضيف: «تجري المداولات في المجلس ونطالب، بعد مرور ثلاثة أشهر، بالمصادقة عليها. كيف يعقل أن نتذكر ما قلناه قبل ثلاثة أشهر؟ بدأنا نسجل، بوسائلنا الخاصة، ما يجري في المجلس من مداولات، وهو ما مكننا من رصد حذف لمداخلات أدلينا بها». مكمن الخلل، حسب أعضاء بالمجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد، التقتهم «الأخبار»، هو طبيعة تركيبة المجلس الإداري وطريقة اشتغاله. «المجلس يتكون من 14 عضوا، ثلاثة منهم يمثلون المنخرطين المحسوبين على نظام المعاشات المدنية. بين الأعضاء ممثلون في حالة تناف، إذ يطلب منهم المراقبة والتتبع علما أنهم ضمن الحكومة الوصية على الصندوق، وهي حالة عزيز الرباح الذي يمثل داخل المجلس الإداري بصفته ممثلا لرؤساء الجماعات. يلمس إعطاء اعتناء خاص بوزراء يحضرون الاجتماعات لماما مثل الرباح»، يقول عضو بالمجلس الإداري للصندوق المغربي للضمان الاجتماعي قبل أن يردف: «هناك شخص يحضر بصفة مستمرة اجتماعات المجلس الإداري ويقدمه مدير الصندوق على أنه خبير. حسب معطياتنا فهذا الشخص يعمل في مكتب دراسات في فرنسا، ويتلقى تعويضا مجزيا عن الحضور في المجلس والاكتفاء بالإنصات. المشكل في القانون الذي يتيح للمدير اختيار خبير لحضور المجلس لكن أن يحضر نفس الشخص باستمرار فالأمر يطرح عدة علامات استفهام». الأدهى، وفق ما حصلت عليه «الأخبار» من معطيات، أن بين من يقررون في أمور الصندوق المغربي للضمان الاجتماعي شخص يرأس جمعية تحصل على دعم مالي سنوي من الصندوق. الدعم يقدر بنحو 40 مليون سنتيم، وهو ما يعادل ربع الميزانية المخصصة للهبات.
من أجل توضيح هذه النقطة اتصلنا بأحمد لمباركي رئيس جمعية للمتقاعدين وعضو بالمجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد، والذي أكد صحة توصل جمعيته بمنحة من الصندوق، قائلا: «المنحة وصلت الآن إلى 50 مليون سنتيم وهي مخصصة للجامعة الوطنية للمتقاعدين التي تظم نحو 80 جمعية وهذه المنحة تحظى بتدقيق كبير». المباركي أضاف أيضا: «الصندوق المغربي للتقاعد من بين المؤسسات التي تمتاز بقدر كبير من الحكامة عكس ما يدعيه بعض المغرضين». وبخصوص ما إذا كان حصولهم على منحة من الصندوق الذي يشغل عضوية مجلسه الإداري هو تضارب في المصالح، قال المباركي: «سيكون الأمر كذلك إذا كانت وراء المنحة منفعة شخصية والحال أنها مخصصة للعمل الجمعوي الذي يتسم بالأهمية والشفافية».
الطريقة التي كشف بها أعضاء المجلس الإداري الذين التقيناهم كيفية تصويت الأعضاء على الميزانية المخصصة للمشاريع الاستثمارية تطرح بدورها عدة نقط استفهام. بهذا الشأن يقول أحد أعضاء المجلس: «الأعضاء يقومون فقط بالتصويت على الحصة من الميزانية المخصصة للمشاريع الاستثمارية، دون الخوض في تفاصيل هاته المشاريع التي يدبرها المدير لوحده. مؤخرا أغلقت الإدارة فندقا بالحسيمة كلف ميزانية كبيرة لإنجازه قبل أن يتبين أن المشروع كان فاشلا منذ البداية. الأمر ذاته يهم عملية بيع مقر للصندوق وسط الرباط، والذي تم بمبلغ لا يصل إلى ربع ما يتعين بيع العقار به، إلى جانب كلفة بناء المقر الجديد الذي بلغنا أنه كلف 16 مليار سنتيم». لكن، كيف تجري متابعة ما تقوم به إدارة الصندوق المغربي للتقاعد وأوجه صرف الميزانية؟
يذيل مشروع الميزانية الذي يعد سنويا بتوقيع كل من مدير الصندوق المغربي للتقاعد ومسؤول آخر، هذا المسؤول هو مساعد مدير بوزارة الاقتصاد والمالية، وهو في الوقت ذاته من يساهم في إعداد الميزانية، بمعنى أنه يفترض أن يراقب ميزانية من إعداده.
الأمر ذاته يسري على لجوء الصندوق، سنويا، لمكتب افتحاص مستقل من أجل التدقيق في الميزانية قبل عرضها على المجلس الإداري. ميزانية 2014 أحيلت للافتحاص، قبل أسابيع، على مكتب محاسبة يوجد بالدار البيضاء، في إطار صفقة تقدر بـ23 مليون سنتيم، فهل يعقل أن يميط مكتب افتحاص، أسندت له المهمة بموجب صفقة، اللثام عن تفاصيل غير سوية في ميزانية مول عمله في إطارها؟.
في النهاية، يظهر سؤال «من يراقب» واضحا خلال استعراض كيفية تدبير مالية صندوق التقاعد. وكلما تواصل البحث بين الأرقام إلا وظهرت حقائق مختلفة تثبت وجود مكامن غموض، من ذلك التباين الحاصل في توقعات تطور احتياطي الصندوق، والتي يظهر، رغم المخاوف المعلنة عن تهديد مالي يحيط به، إلا أنه يسجل فائضا يبلغ 6 ملايير خلال السنة الجارية.
تبقى الأسئلة الباحثة عما يحدث حقيقة داخل الصندوق المغربي للتقاعد، والتي راسلنا بشأنها الإدارة، معلقة حتى لحظة سيظهر فيها كل شيء.
 

عن جريدة الأخبار
تربية بريس
تربية بريس
تعليقات