بقلم: نهاري امبارك، مفتش في التوجيه التربوي، مكناس.
مقدمة:
لا أحد ينكر، مع انطلاق كل موسم دراسي، انشغال الأمهات والآباء بتمدرس أبنائهم، منكبين على تأكيد التسجيل في كل الأسلاك والمستويات، مصطفين في طوابير ومزدحمين، يقتنون الألبسة واللوازم المدرسية، والبشاشة بادية على محياهم، خصوصا منهم أولائك الذين تطأ أقدام أبنائهم مدخل الفصل الدراسي أول مرة، متفائلين متشبثين عازمين على السير بعيدا بأبنائهم إلى أعلى المستويات الدراسية، وكلهم طموح لا حد له، يتوزع بين مختلف الوظائف والمهن والحرف، راغبين في تعليم يمحو الأمية التي يعانون منها، وتكوين يضمن حياة كريمة أفضل من مواقعهم.
فما هي التكلفة والتضحيات المادية والمعنوية لأمهات وآباء وأولياء التلاميذ؟ وما هي انتظاراتهم من المؤسسة التعليمية؟ وهل تستجيب المدرسة لطموحاتهم؟ وأي مواقف تتشكل لديهم إزاء المدرسة؟
سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة انطلاقا من واقعنا الاجتماعي، ومواكبتنا للمسارات الدراسية للتلاميذ، والمردودية المدرسية الموثقة باعتماد تقارير وإحصاءات رسمية، وذلك من خلال الفقرات التالية:
I. التكلفة المادية والمعنوية لأمهات وآباء وأولياء التلاميذ:
تنطلق الدراسة، فيرتفع حجم المعاناة اليومية والمتاعب والمشاق لدى أمهات وآباء وأولياء التلاميذ، فمن صداع الإيقاظ صباحا، والذهاب إلى المدرسة والإياب مرافقين أبناءهم ومنتظرين صغار السن منهم حتى الخروج فالعودة، فإعداد الطعام، إلى السهر على المراجعة والمساعدة في إنجاز واجبات مدرسية مرهقة، فإيجار مدرس الساعات الإضافية، فشراء الدفاتر واللوازم المدرسية الباهظة الثمن، فاقتناء بطاقات النقل، وتحمل مصاريف إضافية وعناء وخوف يرجف القلوب، من آفات النقل وحوادث السير، وصعوبات قطع مسافات طوال في أزقة الحاضرة وشوارعها، وفي أدغال ووعورة البادية ووديانها، فأخطار سيارات النقل السرية منها والعمومية، وأخطار الدراجات الهوائية منها والنارية التي تخطف منهم فلذات أكبادهم بسرعة البرق، فيعيشون تحت هول الصدمة ماداموا أحياء.
إن التكلفة المادية التي يتطلبها طفل متمدرس، يجزم الأمهات والآباء، أنها مرتفعة بالنسبة لمستوى عيشهم في ظل متطلبات الحياة اليومية وغلاء المعيشة، بالرغم من دعم اجتماعي تتحمله السلطة التربوية والذي يبقى هزيلا وغير معمم.
هذه التكلفة، يصرح الأمهات والآباء أنها تفوق يوميا في المتوسط بخصوص طفل واحد، ما يعول أسرة ويسد حاجاتها. ويفوق في مجمله ما يمكن استثماره في مشروع تجاري أو فلاحي أو خدماتي يدر أموالا ويضمن عيشا، دون عناء.
إن هواجس أضرار جسدية أو نفسية قد تلحق أبناءهم، تشكل الانشغال اليومي للأمهات والآباء، ولا يستقر لهم بال حتى يشاهدوا أطفالهم وقد عادوا سالمين واطمأنوا عليهم، حيث أخطار المدرسة في نظرهم متضاعفة، ويمكن أن تحل بأبنائهم من كل جانب: الطرقات والسير، الوعورة والوديان، أصدقاء وعشرة السوء، وذلك يوميا وعلى امتداد السنة الدراسية.
II. طموحات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ وأعطاب المدرسة:
إن طموحات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ جياشة، وتتربع وراء أي نوع من التكلفة، التي تبدو ضئيلة في حق أبنائهم وطلب العلم والتوق إلى الرقي والتقدم، لتمكين أطفالهم من تبديد ظلمة الأمية التي فتكت بهم، ومن رصيد معرفي يعزز تواجدهم ويقوي عزائمهم لمواجهة زحف العولمة والمسك بدواليب التقدم الصناعي والتكنولوجي، حيث لا مكانة لغير متعلم وغير مؤهل مهنيا، وغير ممتلك لناصية العلم والمعرفة.
إن الحرف العشوائية غير المهيكلة نالت من الأمهات والآباء غير المتعلمين، فأصبحوا عبيدا يئنون تحت وطأة الفقر وهيمنة مالكي رؤوس الأموال والعقارات المتنوعة، فشدوا العزم على تعليم أبنائهم وتأهيلهم مهنيا لانتشالهم من براثن العبودية، وتسليحهم معرفيا لاعتناق وظائف ومهن وحرف حرة، تدر عليهم أموالا وتضمن لهم حياة كريمة، مسهمين في رقي مجتمعهم بالعلم والمعرفة متمكنين من التقنيات والتكنولوجيا الحديثة.
لكن، هيهات، كلما مد الأمهات والآباء يدهم إلى المدرسة كلما أدارت ظهرها إليهم، مكرهة تحت فعل صروف الدهر ونوائب الزمان، التي هدت جدرانها وحطمت نوافذها وأتلفت محابرها وأقلامها وكتبها في غفلة القائمين عليها، وبعثرت أوراقها وقلبت أهدافها وغيرت وجهاتها ، فأضحت تتنكر لتضحيات الأمهات والآباء رغما عنها، غير آبهة بزفرات أفئدتهم ونزيف جيوبهم، وسهر لياليهم، وبددت طموحاتهم وآمالهم، حين أخذت تلفظ أبناءهم خارج جدرانها المتآكلة، وتلقي بهم في الأزقة والشوارع وحقول الخلاء الشاسعة، يعانون وهم صغار، ما عاناه آباؤهم وأجدادهم، الاستغلال والحرمان وهم يافعون، لا تعلما ولا حرفة، يزيدون أعداد الأميين تضخما، وكأنهم لم يطأوا أرض الفصل الدراسي بتاتا، ولم يحملوا الدفاتر والكتب، ولم يقضوا ساعات أمام المدرس.
إن نسبة لا يستهان بها من التلاميذ، وفي جميع المستويات، يغادرون الفصول الدراسية كرها ولأسباب متعددة، يشطب عليهم من السجلات المدرسية، ونسبا ملموسة من التلاميذ يفصلون عن الدراسة، خصوصا بالمستويات الإشهادية، وعلى الأخص بمستويي الثالثة ثانوي إعدادي والثانية من سلك البكالوريا، الذين تعترضهم حواجز الامتحانات، ونسب النجاح المحددة سلفا، كما تقف في وجههم المباريات ومحدودية الطاقة الاستيعابية لمختلف المؤسسات المهنية، فيجدون أنفسهم خارج أسلاك الدراسة ومحارف التكوين.
لقد أصبحت المدرسة عقيمة، يقول أمهات وآباء، ولم تعد تقو على الإنجاب، جراء أمراض كثيرة أدت إلى وهن جسمها ونضوب مبيضها، من سوء التغذية والعناية وأضرار الضرة، وتلوث رئتيها وتصلب شرايين قلبها، الذي لم يعد ينبض منتظما، وآيل إلى السكتة المميتة.
III. مواقف أمهات وآباء وأولياء التلاميذ من المدرسة:
وأنا أكتب أسطر هذه المقالة، عدت بعقارب التاريخ سنوات خلت، تناهز ربع قرن، فتذكرت خلال حملة تشجيع التمدرس بالعالم القروي، شيخا فلاحا طاعنا في السن، ذا لحية بيضاء مسدلة، يقول بنبرة قروية حادة، وكأنه عالم مستقبل المدرسة المغربية: " إني فلاح رعوي، ولدي أراض شاسعة، أرعى فيها غنمي التي تفوق خمس مائة رأس، لن أسجل ابني بالمدرسة، حيث إنه لن ينتج شيئا إلا بعد خمسة وعشرين سنة من عمره، أما وأن يرعى الغنم فإنه يعمل نهارا على تسمينها، ويحلبها مساء، ثم يبيع الحليب واللبن والزبدة، وينتج من الآن، ولما يبلغ خمسة وعشرين سنة من عمره، سيكون مالك أراض وقطيع من الغنم وله سكن، ومتزوجا وله أولاد".
كان هذا موقف رجل والمدرسة ولادة وحبلى وحلابة، فما موقف الأمهات والآباء اليوم وقد أضحت عقيمة وغاض ضرعها وجف لبنها؟
ألم يعد الأمهات والآباء يجهرون بالقول وصراحة:
• المدرسة مكلفة وتتطلب ميزانية ضخمة لاقتناء الكتب والدفاتر واللوازم المدرسية؛
• المدرسة تتخلى على بعض أولادها وتطرد البعض الآخر وعلى مراحل؛
• التلاميذ يغادرون المدرسة كرها دون معرفة بالكتابة والقراءة والحساب رغم قضائهم بها سنوات؛
• الأطفال لا يتعلمون شيئا، ولا يستطيعون تهجي الحروف وقد بلغوا مستوى الأولى ثانوي إعدادي؛
• التلاميذ عديمو المعرفة والثقافة العامة وقد حصلوا على شهادة البكالوريا؟
• أغلب التلاميذ الحاصلين على شهادة البكالوريا غير مؤهلين لمتابعة تكوين بالمؤسسات المهنية أو دراسة جامعية بالتعليم العالي؛
• نسبة لا يستهان بها من التلاميذ لا تستطيع تجاوز حواجز امتحانات الثالثة ثانوي إعدادي والثانية باكالوريا؛
• المدرسة العمومية لم تعد منتجة، لقد حلت محلها المدرسة الخصوصية؛
• إذا أردت أن ينتقل أطفالك سنة بعد أخرى، ويتقوى مستواهم الدراسي، فأد لهم ساعات إضافية لدى مدرسيهم؛
• بعض الأطفال ينحرفون ولا يعملون بالقيم الإنسانية الموجودة في كتب المقررات؛
• كثرة الدروس وضخامة المقررات ترهق التلاميذ جراء الحفظ وحشو الذاكرة؛
• قلة الأشغال التطبيقية والمحرفية تجعل التلاميذ لا يستوعبون دروس المواد العلمية والتقنية؛
يبدو إذن أن المدرسة أضحت عاجزة عن إسداء الأطفال خدمات التربية والتكوين، حيث ظاهرة الانحلال الخلقي غزت صفوف التلاميذ، والمستوى المعرفي أخذ يتدنى، والمردودية الداخلية والخارجية تنخفض سنة بعد أخرى، فتشكلت لدى التلاميذ وأولياء أمرهم صورة سلبية حول المدرسة العمومية، وفقدوا الثقة في أدوارها ووظائفها، وبالتالي فقد التلاميذ الثقة في أنفسهم، وأخذوا يشعرون بالعجز عن استيعاب المقررات الدراسية والتكوينية.
IV. أي السبل لإرجاع المدرسة أدوارها ومكانتها؟
وحتى تسترجع الثقة في أدوار المدرسة العمومية ووظائفها لدى التلاميذ وأولياء أمورهم تبدو الاقتراحات التالية مناسبة وذات فعالية:
+ إرساء خدمات التعليم الأولي وتوحيده وتعميمه بالحواضر والبوادي، وإدماجه بالمدرسة الابتدائية ومراقبة سيره وتوحيد برامجه؛
+ الرفع من المستوى المعيشي للمواطن وضمان الخدمات الاجتماعية والطبية لجميع الأسر المعوزة، وجعل كلفة التمدرس في متناول أمهات وآباء وأولياء التلاميذ دون إرهاق كاهلهم؛
+ الاهتمام بالبنية التحتية بالبوادي والقرى والنائية وبناء الطرق والجسور وتوفير النقل المدرسي الكافي بجمع الجماعات القروية؛
+ وضع مقررات دراسية تنسجم والبيئة الثقافية للتلميذ والتقدم الصناعي والتكنولوجي، وتبسيطها وتخفيفها، وجعلها في متناول جميع التلاميذ وفي جميع المستويات الدراسية؛
+ تجهيز المخابر والمحارف ومنح التلاميذ فرص تشغيلها من أجل التأقلم مع الأشغال التطبيقية والإنتاج اليدوي، من أجل إعدادهم للاندماج، بيسر، في التكوينات المهنية والدراسات الجامعية؛
+ التركيز على الجوانب النفسية والصحية والقيمية لدى المتعلمين، وإعدادهم لمواجهة متطلبات الحياة العملية والمهنية؛
+ العمل على محو الفوارق بين المدرسة العمومية والمدرسة الخصوصية والبعثات الثقافية، وتوحيد خدماتها في مدرسة وطنية موحدة، مع توحيد المقررات الدراسية والكتب المدرسية والطرائق البيداغوجية؛
خاتمة:
إن تفعيل مقتضيات دستور 2011، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، وخلاصات وتوصيات اللقاءات التشاورية حول المدرسة المغربية، من شأنه إعادة المدرسة أدوارها ووظائفها، وتطوير خدماتها التربوية والمدرسية والاجتماعية والثقافية والتكوينية.
نهاري امبارك، مفتش التوجيه التربوي، مكناس.
مقدمة:
لا أحد ينكر، مع انطلاق كل موسم دراسي، انشغال الأمهات والآباء بتمدرس أبنائهم، منكبين على تأكيد التسجيل في كل الأسلاك والمستويات، مصطفين في طوابير ومزدحمين، يقتنون الألبسة واللوازم المدرسية، والبشاشة بادية على محياهم، خصوصا منهم أولائك الذين تطأ أقدام أبنائهم مدخل الفصل الدراسي أول مرة، متفائلين متشبثين عازمين على السير بعيدا بأبنائهم إلى أعلى المستويات الدراسية، وكلهم طموح لا حد له، يتوزع بين مختلف الوظائف والمهن والحرف، راغبين في تعليم يمحو الأمية التي يعانون منها، وتكوين يضمن حياة كريمة أفضل من مواقعهم.
فما هي التكلفة والتضحيات المادية والمعنوية لأمهات وآباء وأولياء التلاميذ؟ وما هي انتظاراتهم من المؤسسة التعليمية؟ وهل تستجيب المدرسة لطموحاتهم؟ وأي مواقف تتشكل لديهم إزاء المدرسة؟
سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة انطلاقا من واقعنا الاجتماعي، ومواكبتنا للمسارات الدراسية للتلاميذ، والمردودية المدرسية الموثقة باعتماد تقارير وإحصاءات رسمية، وذلك من خلال الفقرات التالية:
I. التكلفة المادية والمعنوية لأمهات وآباء وأولياء التلاميذ:
تنطلق الدراسة، فيرتفع حجم المعاناة اليومية والمتاعب والمشاق لدى أمهات وآباء وأولياء التلاميذ، فمن صداع الإيقاظ صباحا، والذهاب إلى المدرسة والإياب مرافقين أبناءهم ومنتظرين صغار السن منهم حتى الخروج فالعودة، فإعداد الطعام، إلى السهر على المراجعة والمساعدة في إنجاز واجبات مدرسية مرهقة، فإيجار مدرس الساعات الإضافية، فشراء الدفاتر واللوازم المدرسية الباهظة الثمن، فاقتناء بطاقات النقل، وتحمل مصاريف إضافية وعناء وخوف يرجف القلوب، من آفات النقل وحوادث السير، وصعوبات قطع مسافات طوال في أزقة الحاضرة وشوارعها، وفي أدغال ووعورة البادية ووديانها، فأخطار سيارات النقل السرية منها والعمومية، وأخطار الدراجات الهوائية منها والنارية التي تخطف منهم فلذات أكبادهم بسرعة البرق، فيعيشون تحت هول الصدمة ماداموا أحياء.
إن التكلفة المادية التي يتطلبها طفل متمدرس، يجزم الأمهات والآباء، أنها مرتفعة بالنسبة لمستوى عيشهم في ظل متطلبات الحياة اليومية وغلاء المعيشة، بالرغم من دعم اجتماعي تتحمله السلطة التربوية والذي يبقى هزيلا وغير معمم.
هذه التكلفة، يصرح الأمهات والآباء أنها تفوق يوميا في المتوسط بخصوص طفل واحد، ما يعول أسرة ويسد حاجاتها. ويفوق في مجمله ما يمكن استثماره في مشروع تجاري أو فلاحي أو خدماتي يدر أموالا ويضمن عيشا، دون عناء.
إن هواجس أضرار جسدية أو نفسية قد تلحق أبناءهم، تشكل الانشغال اليومي للأمهات والآباء، ولا يستقر لهم بال حتى يشاهدوا أطفالهم وقد عادوا سالمين واطمأنوا عليهم، حيث أخطار المدرسة في نظرهم متضاعفة، ويمكن أن تحل بأبنائهم من كل جانب: الطرقات والسير، الوعورة والوديان، أصدقاء وعشرة السوء، وذلك يوميا وعلى امتداد السنة الدراسية.
II. طموحات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ وأعطاب المدرسة:
إن طموحات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ جياشة، وتتربع وراء أي نوع من التكلفة، التي تبدو ضئيلة في حق أبنائهم وطلب العلم والتوق إلى الرقي والتقدم، لتمكين أطفالهم من تبديد ظلمة الأمية التي فتكت بهم، ومن رصيد معرفي يعزز تواجدهم ويقوي عزائمهم لمواجهة زحف العولمة والمسك بدواليب التقدم الصناعي والتكنولوجي، حيث لا مكانة لغير متعلم وغير مؤهل مهنيا، وغير ممتلك لناصية العلم والمعرفة.
إن الحرف العشوائية غير المهيكلة نالت من الأمهات والآباء غير المتعلمين، فأصبحوا عبيدا يئنون تحت وطأة الفقر وهيمنة مالكي رؤوس الأموال والعقارات المتنوعة، فشدوا العزم على تعليم أبنائهم وتأهيلهم مهنيا لانتشالهم من براثن العبودية، وتسليحهم معرفيا لاعتناق وظائف ومهن وحرف حرة، تدر عليهم أموالا وتضمن لهم حياة كريمة، مسهمين في رقي مجتمعهم بالعلم والمعرفة متمكنين من التقنيات والتكنولوجيا الحديثة.
لكن، هيهات، كلما مد الأمهات والآباء يدهم إلى المدرسة كلما أدارت ظهرها إليهم، مكرهة تحت فعل صروف الدهر ونوائب الزمان، التي هدت جدرانها وحطمت نوافذها وأتلفت محابرها وأقلامها وكتبها في غفلة القائمين عليها، وبعثرت أوراقها وقلبت أهدافها وغيرت وجهاتها ، فأضحت تتنكر لتضحيات الأمهات والآباء رغما عنها، غير آبهة بزفرات أفئدتهم ونزيف جيوبهم، وسهر لياليهم، وبددت طموحاتهم وآمالهم، حين أخذت تلفظ أبناءهم خارج جدرانها المتآكلة، وتلقي بهم في الأزقة والشوارع وحقول الخلاء الشاسعة، يعانون وهم صغار، ما عاناه آباؤهم وأجدادهم، الاستغلال والحرمان وهم يافعون، لا تعلما ولا حرفة، يزيدون أعداد الأميين تضخما، وكأنهم لم يطأوا أرض الفصل الدراسي بتاتا، ولم يحملوا الدفاتر والكتب، ولم يقضوا ساعات أمام المدرس.
إن نسبة لا يستهان بها من التلاميذ، وفي جميع المستويات، يغادرون الفصول الدراسية كرها ولأسباب متعددة، يشطب عليهم من السجلات المدرسية، ونسبا ملموسة من التلاميذ يفصلون عن الدراسة، خصوصا بالمستويات الإشهادية، وعلى الأخص بمستويي الثالثة ثانوي إعدادي والثانية من سلك البكالوريا، الذين تعترضهم حواجز الامتحانات، ونسب النجاح المحددة سلفا، كما تقف في وجههم المباريات ومحدودية الطاقة الاستيعابية لمختلف المؤسسات المهنية، فيجدون أنفسهم خارج أسلاك الدراسة ومحارف التكوين.
لقد أصبحت المدرسة عقيمة، يقول أمهات وآباء، ولم تعد تقو على الإنجاب، جراء أمراض كثيرة أدت إلى وهن جسمها ونضوب مبيضها، من سوء التغذية والعناية وأضرار الضرة، وتلوث رئتيها وتصلب شرايين قلبها، الذي لم يعد ينبض منتظما، وآيل إلى السكتة المميتة.
III. مواقف أمهات وآباء وأولياء التلاميذ من المدرسة:
وأنا أكتب أسطر هذه المقالة، عدت بعقارب التاريخ سنوات خلت، تناهز ربع قرن، فتذكرت خلال حملة تشجيع التمدرس بالعالم القروي، شيخا فلاحا طاعنا في السن، ذا لحية بيضاء مسدلة، يقول بنبرة قروية حادة، وكأنه عالم مستقبل المدرسة المغربية: " إني فلاح رعوي، ولدي أراض شاسعة، أرعى فيها غنمي التي تفوق خمس مائة رأس، لن أسجل ابني بالمدرسة، حيث إنه لن ينتج شيئا إلا بعد خمسة وعشرين سنة من عمره، أما وأن يرعى الغنم فإنه يعمل نهارا على تسمينها، ويحلبها مساء، ثم يبيع الحليب واللبن والزبدة، وينتج من الآن، ولما يبلغ خمسة وعشرين سنة من عمره، سيكون مالك أراض وقطيع من الغنم وله سكن، ومتزوجا وله أولاد".
كان هذا موقف رجل والمدرسة ولادة وحبلى وحلابة، فما موقف الأمهات والآباء اليوم وقد أضحت عقيمة وغاض ضرعها وجف لبنها؟
ألم يعد الأمهات والآباء يجهرون بالقول وصراحة:
• المدرسة مكلفة وتتطلب ميزانية ضخمة لاقتناء الكتب والدفاتر واللوازم المدرسية؛
• المدرسة تتخلى على بعض أولادها وتطرد البعض الآخر وعلى مراحل؛
• التلاميذ يغادرون المدرسة كرها دون معرفة بالكتابة والقراءة والحساب رغم قضائهم بها سنوات؛
• الأطفال لا يتعلمون شيئا، ولا يستطيعون تهجي الحروف وقد بلغوا مستوى الأولى ثانوي إعدادي؛
• التلاميذ عديمو المعرفة والثقافة العامة وقد حصلوا على شهادة البكالوريا؟
• أغلب التلاميذ الحاصلين على شهادة البكالوريا غير مؤهلين لمتابعة تكوين بالمؤسسات المهنية أو دراسة جامعية بالتعليم العالي؛
• نسبة لا يستهان بها من التلاميذ لا تستطيع تجاوز حواجز امتحانات الثالثة ثانوي إعدادي والثانية باكالوريا؛
• المدرسة العمومية لم تعد منتجة، لقد حلت محلها المدرسة الخصوصية؛
• إذا أردت أن ينتقل أطفالك سنة بعد أخرى، ويتقوى مستواهم الدراسي، فأد لهم ساعات إضافية لدى مدرسيهم؛
• بعض الأطفال ينحرفون ولا يعملون بالقيم الإنسانية الموجودة في كتب المقررات؛
• كثرة الدروس وضخامة المقررات ترهق التلاميذ جراء الحفظ وحشو الذاكرة؛
• قلة الأشغال التطبيقية والمحرفية تجعل التلاميذ لا يستوعبون دروس المواد العلمية والتقنية؛
يبدو إذن أن المدرسة أضحت عاجزة عن إسداء الأطفال خدمات التربية والتكوين، حيث ظاهرة الانحلال الخلقي غزت صفوف التلاميذ، والمستوى المعرفي أخذ يتدنى، والمردودية الداخلية والخارجية تنخفض سنة بعد أخرى، فتشكلت لدى التلاميذ وأولياء أمرهم صورة سلبية حول المدرسة العمومية، وفقدوا الثقة في أدوارها ووظائفها، وبالتالي فقد التلاميذ الثقة في أنفسهم، وأخذوا يشعرون بالعجز عن استيعاب المقررات الدراسية والتكوينية.
IV. أي السبل لإرجاع المدرسة أدوارها ومكانتها؟
وحتى تسترجع الثقة في أدوار المدرسة العمومية ووظائفها لدى التلاميذ وأولياء أمورهم تبدو الاقتراحات التالية مناسبة وذات فعالية:
+ إرساء خدمات التعليم الأولي وتوحيده وتعميمه بالحواضر والبوادي، وإدماجه بالمدرسة الابتدائية ومراقبة سيره وتوحيد برامجه؛
+ الرفع من المستوى المعيشي للمواطن وضمان الخدمات الاجتماعية والطبية لجميع الأسر المعوزة، وجعل كلفة التمدرس في متناول أمهات وآباء وأولياء التلاميذ دون إرهاق كاهلهم؛
+ الاهتمام بالبنية التحتية بالبوادي والقرى والنائية وبناء الطرق والجسور وتوفير النقل المدرسي الكافي بجمع الجماعات القروية؛
+ وضع مقررات دراسية تنسجم والبيئة الثقافية للتلميذ والتقدم الصناعي والتكنولوجي، وتبسيطها وتخفيفها، وجعلها في متناول جميع التلاميذ وفي جميع المستويات الدراسية؛
+ تجهيز المخابر والمحارف ومنح التلاميذ فرص تشغيلها من أجل التأقلم مع الأشغال التطبيقية والإنتاج اليدوي، من أجل إعدادهم للاندماج، بيسر، في التكوينات المهنية والدراسات الجامعية؛
+ التركيز على الجوانب النفسية والصحية والقيمية لدى المتعلمين، وإعدادهم لمواجهة متطلبات الحياة العملية والمهنية؛
+ العمل على محو الفوارق بين المدرسة العمومية والمدرسة الخصوصية والبعثات الثقافية، وتوحيد خدماتها في مدرسة وطنية موحدة، مع توحيد المقررات الدراسية والكتب المدرسية والطرائق البيداغوجية؛
خاتمة:
إن تفعيل مقتضيات دستور 2011، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، وخلاصات وتوصيات اللقاءات التشاورية حول المدرسة المغربية، من شأنه إعادة المدرسة أدوارها ووظائفها، وتطوير خدماتها التربوية والمدرسية والاجتماعية والثقافية والتكوينية.
نهاري امبارك، مفتش التوجيه التربوي، مكناس.