بوسريف: المقررات تشحن التلاميذ.. والمدرسة تحتاج للخيال

شدد الشاعر صلاح بوسريف، الباحث في شؤون المعرفة، أن المدرسة المغربية تحتاج إلى العقل المُبْدِع الذي يَخْتَلِق الحُلول، ويُبادِر لاقتراح الأفكار"، مبرزا أن "هذا المستوى لا يمكنه أن يتحقق إذا بقِيت المدرسة خارج التَّربية الجمالية".

وانتقد بوسريف، في مقال توصلت به هسبريس، تحول المدرسة إلى ما يشبه "ثكنة عسكرية، لا يَجِدُ فيها حُرية في التعبير عن نفسه ومواهبه"، مؤكدا أن "البرامج الموجودة في المقررات الدراسية تكتفي بِشَحْن التلاميذ بالمعلومات، ومناهج التَّدْريس تكتفي بالتَّلْقِين".

وهذا نص مقال صلاح بوسريف كما ورد إلى الجريدة:

مَدْرسَــةٌ بِــدُون خَيَــال

لا يمكن للمدرسة أن تَتَوسَّع في مفهومها، وفي طبيعة الوظائف والأدوار التي يمكن أن تقوم بها، إذا بَقَيَت مُنْغَلِقَةً على نفسِها، أو مُكْتَفِيَةً بما هو مُقَرَّر من برامج، يعرف الجميع، اليوم، بمن فيهم وزير التربية الوطنية نفسه، أَنَّها تحتاج إلى كثير من التفكير والعمل.

أن يَشْعُر التِّلميذ، وهو ذاهِبٌ إلى المدرسة، وكأنَّه ذاهِب لتَكَنَةٍ عسكرية، أو لِمَكانٍ لا يَجِدُ فيه حُرِّيَة في التعبير عن نفسه، وعن مواهبه، وقُدُراته، أو ذَكائِه، بالأحرى، فهذا معناه، أنَّ المدرسة لا تَسْتَجيب لِتَطَلُّعاته، ولِأُفُق انتظاره.

وبالتالي، تصبح المدرسة، بالنسبة له، عِقاباً، بدل أن تكون كِتاباً مفتوحاً على المعرفة، وعلى ما يمكنُه أن يُؤَهِّل هذا التِّلميذ لتفجير طاقاته، واستثمارها بصورةٍ ، تسمح له بالتَّعْبير عن نفسه، بحرية وبانطلاق.

البرامج الموجودة في المقررات الدراسية، اليوم، هي برامج، في مختلف الشُّعَب، تكتفي، في أغلبها، بِشَحْن التلاميذ بالمعلومات، كما أنَّ طريقة تدريسها، ومناهج التَّدْريس، نفسها، تكتفي بالتَّلْقِين، ولا تُتِيح للمُتَعَلِّمِين أن يكونوا شُركاءَ في الدَّرْس، أي مُساهِمين في بنائه، وفي طرح الأسئلة، واقتراح الأفكار، أو الحلول الممكنة والمُتاحَة.

وهذا في تَصَوُّرِنا، وعَطْفاً على ما قُلْتُه في المقال السابق، يحتاج لخروج التلميذ من الكِتاب المدرسي، وانفتاحه على الفنون البصرية المختلفة، التي يمكنُها أن تُتِيح لهذا التلميذ أن يُوَسِّع أُفُقَ رؤيته من جهة، وأن يسمح لخيالة بالانشراح، على اعتبار أنَّ الحاجَةَ للخيال، هي بين أكبر المُشْكِلات التي تتخبَّط فيها المدرسة المغربية. ويعود هذا، إلى طبيعة البرامج التي تحرص على الجواب، أكثر مما تحرص على السؤال.

كثيرون ممن لا يعرفون خَطَر الخيال في تكوين وبناء عقل وفكر الإنسان، يَدَّعُون أنَّ الخيال هو شأن الشَّاعِر والرَّسام أو النَّحّات، أو غيرهم ممن يشتغلون في مجالات الكتابة والإبداع. وهؤلاء يمكنهُم أن يتخيَّلُوا كما يشاؤون، فلا أحد سيتدخَّل لِيُصادِرَ على حَقِّهم هذا، باعتبار أنَّهُم يَتَوَهَّمُون، وأنَّ التَّوَهُّمَ هو أحد معاني الخيال.

خَطأُ هؤلاء، في ما يقولونه، هو جَهْلُهُم أنَّ العِلْم في أصله هو خَيالٌ، وأنَّ كُلَّ ما بَلَغَه العقل البشري من اكتشافاتٍ علمية، ومن تَقَدُّم علميّ، وما بَلَغَتْه التقنية من اختراقات، سَمَحَتْ بظهور هذه الشبكات الواسعة للتواصُل التي أصبح معها العالَم، ليس قريةً صغيرةً، كما يُقال، بل شاشَة صغيرة مُتَنَقِّلَة، نحملُها معنا أينما ذَهَبْنا، أو أنَّ العالَم أصبح بِحَجْم الكَفّ.

فمن يقرأ ما يُسَمَّى بروايات الخيال العلمي، وأكتفي هُنا بروايات جول فيرن، كمثال، دون ذكر ما حَقَّقَتْه السينما في هذا المجال، سيُدْرِك، أنَّ هذه التَّوَهُّمات، هي في حقيقة الأمر، مُقَدِّمات للعلم، وللكشوفات العلمية، وهي نوع من الطُّموح والرغبة، في نَقْل العالم والإنسان من مُستوًى إلى آخر، ومن فكر إلى آخَر، هو نوع من الانفصال الذي لا يتنكَّر لصيغ اتِّصاله الماضية، أو التي أصبحت في عِداد الماضي.

حين تذهبُ المدرسةُ. رأْساً، إلى العقل، فهي تبدأ من حيث ينبغي أن تنتهي، أو تبدأ بالنتيجة، وتتجاهَل مُقَدِّماتها. السَّبَبُ، هو أنَّ هذا العقل الذي تتبنَّاه المدرسة، وتحرص على اعتباره حقيقة العلم والمعرفة، هو عقل مُسْتَوْرَد، بنظامه الفكري، وبآليات اشتغاله، وليس عقلاً وَصَلْنا إليه، بمقدماته الطبيعية التي هي هذا الخيال الذي نَزْدَرِيه، في ما نحن نَفْتَقِدُهُ، ونعتبره ذا صلة بالأدب والفن، وأنَّ الأدب والفنّ لا يمكنها أن يكون مُفيديْن في شيء، لأنَّ الغرب، وصَل إلى ما وَصل إليه، بالعلم، وليس بالأدب والفن. وهذا كان هو جَوْهَر تصريح وزير التعليم العالي، الذي اعتبر الأدب خَطَراً، وَنَسِيَ، أو جَهِلَ أنَّ الخطر، هو أن نَزْدَرِيَ الأدبَ، ونحن لا نعرفُ شيئاً عن الأدب، ولا حتى عن العُلوم، ونكتفي بإطلاق الكلام في الهواء، دون نعرف خَطَرَه علينا، خُصوصاً حين نكون في موقع المسؤولية، واتِّخاذ القرار.

حين عاد المفكر الرَّاحِل، محمد عابد الجابري، إلى «العقل العربي»، فهو عاد إلى جوهر المشكلة التي نُعانِيها، في فكرنا، وفي هذا العقل الرَّاهِن، الذي ليس عقلاً عربياً، أو لا يَمُتُّ لذلك العقل العربي بشيء، لأن العقل الذي نعمل به اليوم، هو عقل مُسْتَوْرَد، جاهِز، وهو عقلُ ثقافة وفكرٍ آخريْن، حتَّى الجابري نفسَه، حين شَخَّص نظام هذا العقل، فهو لم يذهب لِبُعْدِه التَّخْييلي الذي قام عليه هذا العقل. اكتفى الجابري بالبيان العربي، وجرَّ هذا البيان لِما يخدم السياق الذي يُريده، دون أن يِكَلِّفَ نفسَه البحث في الشِّعر، وفي اشتغال هذا النظام في كتاباتٍ صُوفية، لم تَسْتَجِب لهذه الرؤية، أو العقل البياني، الذي اكتفى به الجابري، رغم أهمية ما وصل إليه.

لا عقلَ بدون خيال. والخيال هو الأرض التي عليها يتأسَّس العقل، ويتفَتَّق، ويَفتح لنفسه ما يكفي من الطُّرُق للعبور من معرفةٍ إلى أخرى، ومن فكرٍ إلى آخر، ومن إنسانٍ إلى إنسانٍ، يُعيد تفكير المفاهيم، ويخرج من سَرْدياتٍ إلى غيرها، ما دام طموح التغيير والتَّجديد، أو الإبداع والاخْتِلاق لا حُدود لَهُما.

والمدرسة، ضمن هذا، هي المَشْتَل الذي فيه يَتِمّ تَشْيِيدُ الخيال وتَفْتِيقُه. الدُّروس التي تعتمد على الحساب واللغة، مُهِمَّة، ولها وظيفَتُها، وهي من بين الأمور التي تعمل المدرسةُ على تعليمها للتلاميذ، لكن، إذا كانت المدرسة خاليةً من الفكر الجمالي، وكانتْ عاريةً من الموسيقى والرَّسْم، ومن الجمال، أو الإحساس بالجمال، فهذا سيمنع على التلاميذ أنْ يتحرَّرُوا من من هيمنة العقل الأداتي، أو العقل الآلة، الذي نشْحنُه بالمُعطيات أو البرامج، مثل الحواسب، لا لِيُفَكِّرَ ويبْتَدِع، بل ليكون أميناً، فقط، في تزويدنا بما نرغَب فيه.

المدرسة في حاجةٍ للعقل المُبْدِع، الابتكاري، الذي يَخْتَلِق الحُلول، ويُبادِر لاقتراح الأفكار، ويَسْتَشْرِف، وهذا لا يمكنه أن يَحْدُثَ، إذا بَقِيَت المدرسة خارج التَّربية الجمالية، التي هي الإنسان، حين يكون مُؤَهَّلاً لابتكار الوجود نفسه، ولإعادة صياغَتِه، ليس وفق صورة الله، كما يُؤَكِّد على ذلك الفكر الديني، بل على صورة الإنسان، وعلى خياله، باعتبار الوجود، هو مَسْكَن الإنسان، ومكان إقامته، مهما كان الزمن الذي يستغرقه هذا السَّكَن، أو هذه الإقامة.

فحين كان بعض الفلاسفة الذين خاضوا في هذا المعنى الاستطيقي، أو الجمالي للوجود، وبينهم كانط، بشكل خاص، فَهُم كانوا، في جوهر ما ذَهَبوا إليه، يُؤَكِّدون على «الحرية بوصفها المعنى المُتَبقّي لكل تفكير [أو إبداع] مُقْبِل»، كما يقول جان لوك نانسي.

وهذا تأكيدٌ واضح لمكانة الإنسان في هذا المُتَبَقِّي، الذي هو حُرِّيَة الإنسان، لكن حين يتحرَّر العقل نفسه من التَّبَعِيَة والتَّقليد، والكلام باسم الآخرين، دون أن يكون له صوتُه الخاص به، وما يمكن أن يقترحَه من إضافاتٍ، أو يُحْدِثَه من اختراقاتٍ.

فتحرير العقل من المعنى الأداتِيّ، والعودة به لمقدماته الطبيعة، أعني لهذا الخيال الذي نعتبره تَوَهُماً، هذا هو رِهان المدرسة في تكوين الإنسان، لا الإنسان الآلَة، الذي راهَنَتْ عليه الأنظمة الشُّمولية، لكنها أَخْفَقَتْ، لأنَّ الآلَة، في النهاية، تنتهي إلى العطب، وتصبح إنتاجاً لنفس المعنى، ولنفس الكائن، أو هي، بالأحرى، تُنْتِج التَّشابُه لا الاختلاف، ولا ترغَبُ في المُغايرة، التي هي من مفاهيم الحداثة بامتياز.


عن موقع هسبريس
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-