الانْهيارُ الأخلاقي...

لا يشك ملاحظ، مهتم أو غير مهتم، بالحقل التربوي وحركية المجتمع، أن جدار الأخلاق بدأ ينشق وينهار، ويتداعى على رؤوس المفكرين والمهتمين والمصلحين...ممن لهم غيرة على المجتمع.

    وليس الحدث بجديد، بل قديم، وبدأ يتسارع متهاويا في الآونة الأخيرة. وذلك لأن ثمار المجهودات الإفسادية والتدميرية  والتخريبية قد بدأت تنضج وتؤتي أكلها – الخبيث.
      وربما سيؤول وضع المجتمع لما آلت إليه الأوضاع في الدول التي سبقتنا في تجربة الانهيار والتآكل الأخلاقي والأسري...

   بل أصبحنا نشم رائحة الاحتراق – والاختراق- الأخلاقي تهب علينا من كل حدب وصوب – تزكم الأنوف وتخنق المتحسسين وحتى السليمين.

   وجدير بالملاحظة أن تجربة الفساد في الوطن العربي لن تكون نتائجها كنظيراتها في المجتمعات الأخرى- المتفوقة في المال والإفساد...

  وستكون تجربة فريدة من نوعها، وأشد خطورة وضراوة وتعقيدا وفتكا، ولن ينجو منها صانعو الفتنة، لأن البيئة العربية غير البيئات الأوربية والأمريكية...

    كما أن المنظومات الاقتصادية والسياسية والدينية مختلفة. تلك العوامل – وغيرها – ستعطي للانهيار الأخلاقي في الوطن العربي صبغة مختلفة أشد فتكا ودمارا.

     لن أتحدث – بإسهاب – عن أسباب الانهيار الأخلاقي، لأنها معروفة- يدركها القاصي والداني، والصغير والكبير والأمي والمتعلم...حتى صارت معلومة لدى الناس بالضرورة.

ولن يمنعني ذلك من تلخيصها وإيجازها:

+ البعد عن الله.
+ ضعف المناعة الطبيعية.
+ ضعف المناعة المكتسبة.
+ قوة الفيروسات – المهددة للأخلاق.
+ محاربة الجهود الإصلاحية بالثقافات الاستئصالية.

وترتب عن ذلك شبه انهيار للجهاز المناعي.

فما الحل؟
مشكلتنا أننا نعرف الأسباب والحلول، ولكنا عاجزون، نحس وكأنا مشلولون- غير قادرين على الفعل. فما سبب هذا الشلل؟

  فالسؤال دقيق جدا، والجواب عنه متشعب جدا، وله ذيول وذيول...فسأحاول قدر المستطاع فك شفراته، وترتيب خيوطه، خيطا خيطا، وتقديمها يسيرة في المتناول.

    إن للفساد قوة جذب خطيرة وقوية. اكتسبت هذه القوة والجاذبية، من كثرة العوامل الإفسادية والانحرافية الطاغية، السائرة في خط متواز مع التنشئة الاجتماعية – في الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع...

    فيجد المرء نفسه متورطا في وحلها؛ يصعب عليه التخلص منها. فالفساد يسكن المجتمع على نحو عجيب. حتى كاد يُخال للناس حقا ومعروفا، يذود عنه الذائدون، وينافح عنه المنافحون- من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

 فكيف لطفل نشأ وترعرع في بيئة فاسدة أن يعرف جمالية النور ؟!!
- إلا ما شاء الله. قال تعالى:( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) القصص/56 .

      (مأسسة الفساد):  لقد غدا الفساد صناعة من الصناعات، لها مهندسوها، وتقنيوها، وشركاتها، ومجالاتها، وتقنياتها، وعلمها، ومنظروها، وفلاسفتها... يبرعون فيها، ويطورون قدراتهم كل وقت وحين، ليكونوا دائما على أهبة الاستعداد.

    فالقدرة على التغيير ليست سهلة، كما نتصور، لأن الإرادة وحدها غير كافية، ولو بلغت من القوة ما بلغت.
 

      فثمة عوامل أخرى نسقية لها علاقة وطيدة بالمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واللوبيات المهيمنة وسماسرتهم ... وكل ذلك دائر على نواة مركزية، وهي الإرادة السياسية . وهي محرك لا يتحرك حتى يحرك، ومحركها: "اليقظة الشعبية".

    وهذه اليقظة نسق يتألف ويتشكل وينض من خلال ائتلاف إرادات عاقلة نيرة؛ لها طموح إصلاحي – ورافضة للانهيار الأخلاقي، ويحز في نفسها أن ترى الدمار يعم أرجاء الحصن، وترى العدو يدك الحي والميت، يصول ويجول بدون منازع...

     فهناك عراقيل داخلية، وأخرى خارجية، تهدد كل مسيرة إصلاحية تهدف للنهوض بالأخلاق- من منظور الدين الحنيف.
 

وقد يكون هناك تشابك بين الداخل والخارج حتى يستحيل على الممحص والناظر الفرز والتمييز. ولسنا نشك في وجود مؤامرة بل مؤامرات، لشن حرب ناعمة على الإسلام والشريعة.

    دعنا لا نتيه في التشابكات والتجاذبات. فالحلول غير خافية على المصلحين، فالأمر محسوم نظريا- معقد عمليا.

    فالفعل الإصلاحي ليس كسائر الأفعال، لأنه يحمل في طياته عوامل تدميره. وهل في الانهيار الأخلاقي مصلحة أو مصالح لبعض الناس؟

    نعلم أن لهم مصالح، ونتفق أنها مصالح عاجلة خسيسة، غير خافية، وهم يعرفون ذلك أكثر منا، وفضلا عن مصالحهم الخسيسة والدنيئة...فإنهم يحملون في قلوبهم غلا كبير وحقدا عظيما.

مظاهر الانهيار الأخلاقي:

 مظاهر الانهيار الأخلاقي، نعيشها ونعاني منها، وهي كثيرة متنوعة، سننوه إلى أهمها:

•    مظاهر اقتصادية: كالغش والربا والاحتكار والاستغلال...
•    مظاهر اجتماعية: كالتفكك الأسري والانحراف- استقالة الأسرة ...
•    مظاهر سياسية: الفساد السياسي – الرشوة – والنفاق – الخداع...
•    مظاهر فكرية: قرصنة المجهودات الفكرية وتبنيها- سياسات التجهيل – ترويج النماذج الفكرية الفاسدة...
•    مظاهر إعلامية: الانحراف الأخلاقي – مشاهد خادشة للحياء – التضليل الإعلامي – الترويج للكذب...
•    مظاهر تربوية: تمس المدارس والكليات ومؤسسات التكوين، بحيث تسلم لخريجيها شواهد فارغة من المحتوى الأخلاقي...
•    غياب ثقافة المسؤولية: فهناك ظاهرة تقاذف الاتهامات بين المسؤولين- التقصير في أداء الواجبات بحجة أن فلان أوعلان مقصر...
•    تغليب العقل النفعي على الشرع الإلهي: وهي إشكالية كبيرة يمكن اعتبارها أصل كل المشكلات، فالمسلمون يحتكمون للشرع والعقلانيون يحتكمون للمنفعة. والشرع لا يناقض العقل. فالعقل ميزان دقيق ولا تطمع أن تزن به الجبال.

زمن الصفقات:
   نحن في زمن كادت تمحي فيه ثقافة الإيديولوجيات والتمذهبات، لتحل محلها ثقافة الصفقات؛ خذ وهات.

    والمعلوم أن تلك الصفقات لا تراعي مسألة الحلال والحرام، والحق والباطل. والأساس فيها المصلحة والربح المادي في العاجل والآجل – فهي صفقات قريبة المدى وأخرى طويلة...

وتساهم هذه الثقافة المنحلة عن الدين والفضيلة، في الانهيار الأخلاقي وانحلال السلوك البشري، عن أي ضابط، إلا ضابط المنفعة المتوحشة.

    وكل مصلحة أو منفعة لا تراعي الخُلق والدين فهي متوحشة  - ترد البشرية إلى العصور الجاهلية.

    ولا ينبغي أن يفهم عنا أن الأخلاق تتنافى مع المصلحة.
   فالتزام الأخلاق الإسلامية والتعاليم الربانية من أسمى المصالح على الإطلاق. وعقد الصفقات ليس محرما إذا انضبط لمعايير الإسلام ومقاصده الهادية إلى الطريق المستقيم.

وختاما:

قال الإمام ابن قيّم الجوزيّة ـ رحمه الله ـ في : زاد المعاد ( 4 / 362 ـ 364 ) :

(ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى‏:‏ ‏{ ‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس‏ }‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏.

     ونزّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض، وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم‏.‏..)

--------------------------

   1-وليست للسياسة إرادة، لأن الشعب هو المسؤول عن كل تهور أو انهيار أخلاقي، لأنه لم يتدخل بالوسائل المناسبة والمشروعة... لإرغامها على الرجوع.
  2-"كلُّ المهن تتطلب ترخيصًا وشهادةً لإثبات الكفاءة والصلاحية إلاَّ تكوين الأسرة، فإنَّه لا يتطلب شهادةً ولا تكوينًا، كُنْ من شئتَ وكوِّن أسرةً أو أسرتين، فالباب مفتوحٌ على مصراعيه للصالح والطالح، ومن النتائج المترتبة على هذا الوضع - المأساوي - تفسُّخُ الأسر وانهيار المنظومة القيمية".
  3-" إن العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمح أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثل رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يُدرك، على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه، وتفطن في هذا لغلط من يقدم العقل على السمع، في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه...".
مقدمة ابن خلدون 3/968 تحقيق د. علي عبد الواحد وافي.
 4-البرغماتية في اعتقادنا نوعان:
- البرغماتية العقلانيةُ: بحيث إن مستندها العقل المصلحي والنظرة النفعيةُ العمليةُ وأسَاسُهَا الأخْذُ والعَطَاءُ وفقاً لمبدأ المصالحِ المتبادلة...
- البرغماتية المتوحشةُ: استغلالٌ للمصالحِ والمنافعِ بشكل لا يراعي منطقَ التَّبادلِ والتقاسم؛ ولهذا أسميتها البرغماتية المتوحشة.
والبرغماتيتان كلتاهما لا تستندان على الأساس الجزائي الأخروي (العمل في سبيل الله وابتغاء مرضاته) - وتناقضان تعاليم الدين الإسلامي.


   حنافـي جواد
تربية بريس
تربية بريس
تعليقات