تربية بريس
اسماعيل الحلوتي-( إطار تربوي)
ماتزال تداعيات ما أفرزته المذكرة الوزارية رقم:2/2156 الصادرة بتاريخ: 04- 09- 2012، المتعلقة بتدبير الزمن المدرسي في سلك التعليم الأساسي، من ردود فعل متباينة في القرى والمدن، في أوساط الأسر وبين مختلف الفاعلين التربويين، تؤثر سلبا على السير العام، ليس داخل أسوار المدارس الابتدائية وحسب، بل امتدت شرارتها إلى سلك الثانوي التأهيلي الذي يعاني الويلات هو الآخر، وحتى إن أمطرت مقتضيات المذكرة إياها، دلاء كبيرة وغزيرة من الحبر بمختلف الألوان عبر صفحات الصحف الوطنية، والمواقع الاجتماعية، فإن ذلك كله لم يسعف في إطفاء الحرائق المشتعلة في الصدور.
وإذا كانت عبقرية سليل "الخيمة الاستقلالية"، التي عودنا أبناؤها عن"إبداعاتهم" كلما أتيحت لهم فرصة الإمساك بمقود قطار تعليمنا، قد تفتقت عن هذا الفتح المبين، الذي جاء، حسب زعمه، متماشيا مع المقاييس الدولية في تنظيم الحياة المدرسية، بهدف تأمين الزمن المدرسي لمتعلمينا، بشكل يتواءم واستعداداتهم الجسمية والذهنية، وتوفير شروط تحصيل أفضل، فهل هذا يعني، أن كل الصيغ الزمنية المعتمدة سابقا من: نظام التناوب المتعدد، التوالي، العادي، المستمر...كلها كانت مجرد هدر للزمن يستدعي مساءلة المسؤولين السالفين، أم "عفا الله عما سلف"وكفى ؟..
قد لا ينكر عاقل ما للزمان من بالغ الأهمية في حياة الأمم والشعوب، التي لا يمكنها تحقيق النماء والرخاء، ما لم ترق بمفهوم الوقت وتحرص على حسن استثماره في إدارة شؤونها العامة والخاصة، سيما في قطاع حيوي هام من مستوى ذاك الذي يعنى بالتربية والتعليم، باعتباره الكفيل الأكبر، لضمان شروط نجاح كل تنمية بشرية حقيقية. وأكيد أنه لن يحرز المصداقية اللازمة، كل توزيع للزمن لم يضع نصب عينيه مصلحة التلميذ والمدرس، ويراعي متطلبات المواد الدراسية وحاجيات المتعلمين، كي يتسنى للعملية التعليمية التعلمية إيتاء ثمارها يانعة. إن بناء جداول الحصص واستعمالات الزمان، ليس بالعملية الهينة كما قد يتبادر إلى ذهن البعض ممن يجهلون أبجديتها، وتعوزهم القدرة على فك رموز بنائها، أولئك الذين قد لا يتيسر لهم سوى صنع الحزن والاستياء العميقين في النفوس، وهم عما يقترفونه من آثام لا يعقلون. لقد كانت هذه المهمة وما تزال معقدة، وتطرح العديد من المشاكل المختلفة، في ظل ما تشكوه المؤسسات التعليمية من إكراهات مادية وبشرية، منها ما يندرج في قلة الإمكانات والتجهيزات، ومنها ما هو مرتبط مباشرة بالأشخاص المخول لهم إداريا الإشراف على إنجازها، وما يستلزم ذلك من مؤهلات علمية وتخطيط معقلن ، في اتجاه تحسين خدمات مدرستنا العمومية والنهوض بمستوى منظومتنا التربوية، لما فيه خير الصالح العام...
وإذا كان التوقيت الجديد في التعليم الأساسي، الذي يعتمد إعداد برنامج واحد ووحيد لطرفي المعادلة التعليمية، أي التلميذ والمدرس ، قد أحدث كل هذا اللغط ، فما بال سيادة الوزير "محمد الوفا" بواقع التعليم الثانوي التأهيلي ، في ظل تعداد الشعب، المسالك، المواد والتخصصات، أمام انعدام وجود صيغة زمنية موحدة أو شبكة جاهزة كما في الإعدادي؟ إن ما يجري تحت أنظار رئيسات ورؤساء المؤسسات التعليمية من احتقان، جدير بأن يعاد النظر في دوافعه التي من بينها رداءة جداول الحصص. ولا شك أن إنجاز هذه العملية على الوجه الأمثل، يتطلب خبرة وجهودا إضافية، دون إغفال مجموعة من المعايير التربوية نخص بالذكر منها: احترام التعليمات الرسمية وطبيعة المواد، التقيد بمضامين المذكرة الوزارية رقم: 43، الصادرة بتاريخ: 22-03-2006، في شأن تنظيم الدراسة بالتعليم الثانوي، توزيع الحصص الأسبوعية المقررة حسب أهمية المواد الدراسية، بالنسبة لكل شعبة أو مسلك، مع العمل على تنويعها تفاديا لما قد يشعر التلميذ بالملل أو يعرضه للإرهاق، استغلال حجرات التعليم العام ،القاعات المختصة ، والوسائل الديداكتيكية بطرق علمية ومنتظمة. السهر على عدم إثقال كاهل الأستاذ بكثرة المستويات، تجنب تغليب مصلحة مادة على أخرى، اعتبار المدرسين سواسية، للحفاظ على علاقات إنسانية طيبة، وضمان مناخ تربوي طبيعي وسليم، يسهم بفعالية في الرفع من أداء الأساتذة، لتحقيق تكافؤ فرص الاستيعاب والتحصيل بين كافة المتعلمين ...
فإلى عهد قريب، كان الوازع الأخلاقي والحس التربوي، يحتمان على السيدات والسادة المديرين والنظار، أن يركزوا اهتماماتهم على تنظيم العملية، حتى لو اقتضى الأمر التضحية بعطلهم الصيفية، مستحضرين التعليمات الرسمية وما تنص عليه المذكرات الوزارية، مستعينين بآراء السيدات والسادة المراقبين التربويين، بأصحاب المهارات والكفاءة من مدرسين وإداريين، وبما تراكم لديهم من خبرات شخصية، خلال مسارهم المهني عبر مهام التدريس والحراسة العامة...، لأجل أن تأتي استعمالات الزمن وجداول الحصص، خاضعة في معظمها للشروط المطلوبة، ووفق ضوابط معقولة.. كما أن مصالح الشؤون التربوية وأجهزة المراقبة التربوية، لم تكن تصادق على الجداول غير المستوفية للشروط التربوية، سواء تعلق الأمر بتوزيع الحصص الأسبوعية بما فيها ساعات التفويج، أو بطريقة تنظيمها ... إلا إذا أعيد بناؤها حسب المطلوب...ترى أين نحن من المدرسة ذات الجاذبية، أو من توفير الجودة المنشودة، في ظل ما نلاحظه من جداول حصص واستعمالات زمن، تفتقد إلى أبسط مواصفات العمل التربوي الهادف، وتنعكس بالسلب على نفسية التلميذ والمدرس؟. صحيح أن بعض الغيورين سارعوا إلى وضع "برانم" عبر الإنترنت، إسهاما منهم في تيسير مأمورية الإدارة التربوية ، إلا أن ما ليس مستحبا ولا مقبولا، هو سوء التوظيف لتلك البرامج المعلوماتية، وما ينتج عنه من إخلال بالنظام العام، وإضرار بمصالح جميع مكونات العملية التعليمية على عدة مستويات: توزيع لاتربوي، جمع حصص أسبوعية في وقت واحد، حجرات غير مستغلة بانتظام وإحكام، استعمالات زمن التلاميذ تتخللها ثقوب ومرهقة أحيانا، جداول حصص تلزم البعض بالعمل سبع إلى ثماني ساعات في يوم واحد، ناهيكم عن تعدد المستويات المسندة إلى الأستاذ الواحد، مما يحول دون العطاء المتوخى...و..و..ولعل أصدق تعبير يجسد مدى معاناة أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي، أمام عشوائية إعداد جداول الحصص في غالبية المؤسسات التعليمية، هو ما قاله يوما أحد المتضررين (وما أكثرهم) وهو يتفرس في جدوله الشخصي :" والله واخا يكونو مصاوبين فظلام وبالليل بلا شمعة بلا قنديل مايطلعو بحال هاكا...". من هذا المنطلق، فإننا ندعو السيد الوزير، إن كان حريصا بالفعل، على أن يسمو بمستوى تدبير الزمن المدرسي، وبتوزيع الحصص التربوية إلى ما هو معمول به في الدول التي تحسن رعاية متعلميها، وتقدر جهود مدرسيها، أن يبادر إلى تعميم حرصه على مختلف الأسلاك التعليمية، ويبث الروح من جديد في أجهزة المراقبة التربوية ومصالح الشؤون التربوية بالأكاديميات والمندوبيات الإقليمية، باستصدار مذكرة عاجلة في هذا الشأن، ترجع لجداول الحصص قيمتها التربوية المفقودة، ترفع الضرر القائم عن الأساتذة، وتعيد البسمة الضائعة إلى شفاهم، سيما أن المسألة لا تتطلب أكثر من مراجعة الأوراق الشخصية التي تمر عبر قناتيهما لاكتشاف حجم "الأعطاب" و...
جداول الحصص بين العقلنة والعشوائية!
تعليقات