ما عاد من شك يخامر أحدا ، في أن ما أضحى يجسد قلقنا المتنامي بدون حدود ، هو تلك الاختلالات التي تحول دون استقرار منظومتنا التربوية، باعتبارها من الأولويات الملحة التي تأتي مباشرة بعد قضيتنا الأولى: استكمال وحدتنا الترابية.. ونظرا لما يتهددها من أسقام لم تنفع في علاجها كل الأدوية المستوردة ، فإن الواجب الوطني يحتم علينا، إذا كنا نروم فعلا رفع التحديات ودفع الأخطار المحدقة بنا، اعتماد خطاب صاحب الجلالة ليوم : 20 غشت 2012، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب وعيد الشباب، مرجعا أساسيا في تسطير خارطة طريق، تهدف إلى تأسيس ثقافة تعليمية حديثة، ترتكز على تكوين رأسمال بشري قوي ومتماسك، من خلال إعداد جيد ومنتج لأجيال قادرة على كسب رهان التنمية الاقتصادية والاجتماعية.. ألم يقل يوما الفيلسوف الألماني كارل ماركس:" الإنسان، هو أثمن رأسمال في الوجود"؟. فالعنصر البشري، يعد من أغلى وأكبر الثروات التي بإمكانها تحقيق رفاهية الشعوب وازدهار الأمم، إذا ما تم توظيفه بالشكل الأمثل وهيئت الظروف المواتية لحسن استثماره..
ويأتي في مقدمة انشغالاتنا، ما بات يعرف بالهدر المدرسي لما يشكله من هاجس تربوي مؤرق، يحمل في أحشائه بذور الفشل، الذي يفضي بعجالة إلى عتمة الجهل والتخلف، فهو بمثابة تلك العقبة الكأداء التي تعطل مسيرتنا التنموية. و يشمل في معناه العام، كل ما من شأنه إعاقة السير الطبيعي والسليم للعملية التعليمية التعلمية، ويتسع مفهومه إلى مجموعة من الإكراهات المتمثلة أساسا في: عدم الالتحاق بالدراسة، الانقطاع المبكر، التكرار والفصل، التأخر والغياب بالنسبة للمتعلم والمدرس، عدم إكمال المقررات الدراسية...إننا لا ننكر ما بذل من جهود مضنية ماديا ومعنويا، عبر الحكومات المتعاقبة في محاولات "جادة" للحد من هذه الآفة التي أرخت بظلالها على العالمين القروي والحضري، وما يترتب عنها من عراقيل تعترض سبل تحقيق تعميم التمدرس، مواصلة الدراسة، وارتفاع نسبة الأمية.. غير أننا نجد ضمن البحوث والتقارير المتاحة التي أشرفت على إنجازها مؤسسات دولية، أن بلدنا ما يزال يقبع بين أدنى المراتب في مؤشرات التنمية البشرية. ويتصدر تعليمنا الأساسي قائمة أسلاك التعليم التي يهجرها أبناؤنا وأطفالنا حتى دون بلوغهم سن العاشرة، مما يضطرهم إلى امتهان حرف تمس بالكرامة وتحط من قدر الإنسان : التسول، مسح الأحذية، خدمة البيوت... ويجعلهم لقما سائغة في أفواه الظلاميين أو فرائس بين براثن التسكع والانحراف، وتعد الفتيات من أكبر الضحايا بنسب قد تصل أحيانا إلى % 60، في الأرياف والبوادي حسب بعض الإحصائيات غير الرسمية...
فمن خلال دراسة، قامت بها كتابة الدولة المكلفة بمحو الأمية، بتعاون مع المنظمة العالمية "اليونيسيف" حول ظاهرة (( الانقطاع عن الدراسة))، يتضح أن سنة واحدة يقضيها الطفل في التعليم الأساسي، من شأنها تحقيق ما يمثل % 12,70 من رفع مستوى الدخل مقابل10,40 % في التعليم الثانوي، الذي بات هو الآخر مهددا باتساع دائرة الهدر في صفوف المنتمين إليه أمام انسداد آفاق المستقبل وانعدام فرص الشغل حتى لذوي الشواهد العليا، ويزداد مؤشر الربح بنقطة واحدة لدى الإناث، ولنا أن نتصور حجم الخسائر التي يتكبدها مجتمعنا، إذا ما علمنا أن المغرب مقارنة مع باقي دول العالم العربي، أصبح يضم بين حدوده أكبر نسبة من الهدر المدرسي، الذي يشجع شبابنا الحالم واليائس على ركوب قوارب الموت، أملا في معانقة الفردوس المفقود الذي تعذر العثور على بوابته بين سطور البرامج والمقررات الدراسية...
صحيح أن الوزارة الوصية، بتنسيق مع وزارة الداخلية في شخص أعوان السلطة من "مقدمين وشيوخ" حاولت قدر الإمكان في مناسبات عدة، سواء في القرى أو الحواضر، تحسيس الآباء والأمهات بإلزامية التمدرس والتصدي لعدم التحاق أبنائهم إذا كانوا مسجلين، درءا لكل تسرب أو انقطاع، وصحيح أيضا أنها بتضامن مع المجلس الأعلى للتعليم والجمعية المغربية لدعم التمدرس، قامت برصد أغلفة مالية سنوية عبر برامج مختلفة "برنامج تيسير" الذي تقدم بموجبه مبالغ مالية للأسر المستهدفة بشروط واضحة، توفير النقل المدرسي في بعض المناطق،توزيع اللوازم والكتب المدرسية في إطار"المبادرة الملكية مليون محفظة" ومن خلال شراكات دولية...تهدف جميعها إلى دعم أبناء المعوزين للاستمرار في الدراسة وتحقيق نتائج طيبة، إلا أن كل ما أنفق من جهد ووقت وأموال، ذهب هباء مع أدراج الرياح، الشيء الذي يدعو بإصرار الحكومة الحالية إلى استخلاص الدروس والعبر، وأن تنصب اهتمامات الوزارة الوصية على تفعيل دور المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، بحثا عن حلول حقيقية، قادرة على تذليل الصعاب القائمة ومحاولة تجاوزها، في اتجاه إرساء دعائم مدرسة وطنية ذات منفعة عامة وجاذبية تامة، تتحول إلى مركز إشعاع وإغراء، يجسد قوة مغناطيس طبيعي يجذب إليه القاصي والداني، ابن الفقير كما ابن الميسور، عن طريق القطع مع تلك المدرسة التقليدية، التي تبث الملل والنفور في النفوس، وتنتج العطالة من مختلف الأعمار، بإحداث تعليم جيد وملائم لمتطلبات الحياة العصرية، تعليم يساهم بفعالية في تطوير وتعزيز الملكات والكفايات لدى المتعلم، واستثمار طاقاته الإبداعية الكفيلة ببناء مستقبل زاهر لأبناء الوطن دون تمييز أو إقصاء.. فالهدر المدرسي، لا تكمن خطورته في تبديد الموارد المالية للدولة، والتأثير المباشر على قدراتنا الاقتصادية والناتج الداخلي فحسب، وإنما أيضا في انتشار الأمية لدى الصغار والكبار معا، ارتفاع معدل البطالة ،وشيوع الجريمة بمختلف أشكالها، مما يستوجب انكبابا صادقا بنضج ورزانة، على تحليل الظاهرة والسعي إلى القضاء على مسبباتها وإن بشكل تدريجي في مرحلة أولى...
وفي ظل هذه الظروف الصعبة والدقيقة، يمكن القول إن وزارة التربية الوطنية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، بمؤازرة ومساندة كل القطاعات الحكومية وفعاليات المجتمع المدني والقطاع الخاص..أن تبادر فورا إلى الانخراط في دينامية حديثة تليق بمغرب الألفية الثالثة،استدراكا للزمن المهدور، ووضع استراتيجيه واضحة المعالم والرؤى، في أفق إصلاح شامل وتحقيق الإقلاع الذي طال انتظاره...
إسماعيل الحلوتي
إسماعيل الحلوتي