المراقبة المستمرة وزيف التقويم التربوي

الصورة من موقع تربية بريس
في إطار تنظيم الدراسة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، والإعداد لنيل شهادة البكالوريا، سبق لوزارة التربية الوطنية ، وهي سيدة الحذاقة في "الاستيراد" و"الإصدار"، أن أصدرت مذكرة تغري المتتبع للشأن التعليمي، بالتطلع إلى المزيد من الأمل في الإصلاح، بتاريخ: 05 ذو القعدة 1428، الموافق ل: 16 نونبر 2007، تحت رقم: 142، حول موضوع التقويم التربوي بسلك الثانوي التأهيلي، معتمدة كمرجع أساسي، مذكرتها رقم: 43، بتاريخ: 22 مارس 2006، والقرار الوزيري رقم: 2385.06 الصادر بتاريخ:23 رمضان 1427، الموافق ل: 16 أكتوبر 2006، ويبدو أن حلمها "النبيل" وهدفها "الجليل" من هذه الإصدارات المباركة، هو ذلك السعي الحثيث نحو ترسيخ ثقافة تعاقدية بين التلاميذ وأساتذتهم، قوامها التزام متبادل بين طرفي المعادلة، يتسم بالشفافية والموضوعية من أجل تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين تلاميذ مختلف جهات المملكة...
  ولعل ابرز ما يرتكز عليه التقويم التربوي، للمساهمة الفعلية والفعالة في : النهوض بمنظومتنا التربوية، تطوير أساليب التدريس، وتحقيق أهداف الجودة المنشودة، هو ذلك العمل الجاد والمسؤول على توحيد أدوات التقويم وأشكاله، لما يفيد في تمهيد السبل نحو خلق نمط من التجانس، بين هذه الأشكال والمواصفات المعتمدة في المناهج والبرامج من جهة، وقدرات التلاميذ من ناحية أخرى، وكذا الحرص على تتبع نتائجهم واستثمارها بالشكل الأمثل، لاتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بتقويم وتصحيح النقائص لديهم، في إطار تحسين أدائهم. إلا أنه، لا يمكن بلوغ المرامي المرجوة، ما لم يتم توعية هؤلاء المتعلمين وإشعارهم بأهمية دور المراقبة المستمرة في حياتهم المدرسية، للارتقاء بتعلماتهم وتثبيت مكتسباتهم. والأهم من ذلك كله هو السهر على تأهيلهم وتهييئهم، لاجتياز الامتحان الوطني الموحد في ظروف جيدة وملائمة...
  وبعيدا عما تتطلبه هذه العملية التربوية من إجراءات تنظيمية، من حيث إعداد الأدوات والوسائل المرافقة لها، في احترام جدولتها الزمنية بطريقة منظمة، وبتنسيق مع الإدارة التربوية، ضمانا للسير الطبيعي للدراسة، وتجنبا للوقوع في مطب إرهاق التلاميذ، وبث بذور النفور واليأس في نفوسهم، ومن حيث القيام بأنشطة التقويم والتصحيح، لجعلهم قادرين على اكتشاف مواطن ضعفهم، والدفع بهم صوب تجاوزها، وإشعار أوليائهم كلما دعت الضرورة القصوى إلى ذلك... فإننا في ظل انعدام المراقبة التربوية الصارمة ، التي انصهرت في بوتقة المغادرة الطوعية، غير المأسوف على زمنها المنبوذ، وعدم التزام هيأتي التدريس والإدارة، بما تنص عليه  المذكرات سواء منها الوزارية، الأكاديمية والنيابية، لأسباب لم تتضح معالمها بعد... نجد أن التلاميذ قاطبة، إناثا وذكورا، في التعليم العمومي كما في الخصوصي ، وعملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة، لم يعودوا معنيين سوى بالحصول على أعلى النقط،  التي تؤهلهم لنيل شهادة البكالوريا وضمان مقاعد مريحة في المعاهد والمدارس العليا...
ومما يفسر ما وصلت إليه نقط المراقبة المستمرة، من ارتفاع لا يعكس بأي وجه من الوجوه مستويات التلاميذ وقدراتهم الحقيقية، أن المدارس العليا، المعاهد وكليات الطب والصيدلة..و..و ... في ظل محدودية المقاعد، أصبحت تعتمد في انتقاء المسموح لهم بالمشاركة في إجراء الاختبارات الكتابية، من بين الحاصلين على معدلات جد مرتفعة، للحد من التدفق الحاصل، ثم انتظار ما ستسفر عنه نتائج المباريات المنظمة.. ولأن الأسر الميسورة تأبى أن يحرم أبناؤها، من امتياز الظفر بحق مواصلة تعليمهم، في المدارس ذات الصيت والسمعة الطيبتين، والضامنة لوصول أهم المراكز بعد التخرج، فإنها تربط تسجيلهم في التعليم المدرسي الخصوصي، بضرورة استفادتهم  من نقط محترمة في سائر المواد المقررة، الشيء الذي ترتب عنه تنافس غير شريف، بين مؤسسات التعليم الخاص.وبما أن أغلب المدرسين في هذا القطاع ، هم أنفسهم من يدرسون في المدرسة العمومية، لانتمائهم إداريا إلى القطاع العام، فإنه يحز في أنفسهم اللجوء إلى الكيل بمكيالين، إذا ما علمنا أن تلامذتهم، وأسرهم المعوزة، لا يحاسبونهم على أي شيء: لا عن عدم فهم الدروس وبطء سيرها ،  لا عن التأخر ،أو التغيب سواء المبرر أو غيره، وأشياء أخرى... لذلك نراهم يسارعون بدون أدنى تردد، إلى جزل العطاء في النقط مقابل شراء قسط من الراحة وتفادي الإزعاج...
إن المتأمل في نقط المراقبة المستمرة، غالبا ما يقف مشدوها أمام زيفها، بعدما حادت عن غاياتها الكبرى، التي من أجلها تم تنظيمها، ولم تعد تعكس بصدق الأداء التربوي للتلميذ إن في التعليم العام أو الخاص، ولا أدل على ذلك أكثر من التباين الملاحظ بينها والمعدلات المحصل عليها في الامتحان الوطني . فهل من المعقول في شيء أن تمنح نقطة 18 أو 19 من عشرين، لتلميذ ليس بمقدوره تركيب جملة واحدة سليمة ومفيدة،سواء في اللغة العربية أو اللغتين الأجنبيتين الأولى والثانية، وقس على ذلك في سائر المواد، أما خلال الامتحانات الرسمية، فإنه بالكاد يحصل على معدل 10 في مادة ما، ويظل مشكوكا في صحته، لتنامي ظاهرة الغش بمختلف الوسائل المتطورة. ثم بالله عليكم، أين نحن من الوازع الأخلاقي والضمير المهني، حين يتجه بعض السماسرة من الإداريين إلى أسلوب الاتجار في نقط المراقبة المستمرة ونقط المواظبة والسلوك، وينجز الأستاذ فروضها مع تلاميذه أثناء الحصص الإضافية الخاصة؟ وما ذنب أولئك الذين لا يملك آباؤهم القدرة على الأداء والإرشاء؟ إن تضخيم نقط المراقبة، سيظل وصمة عار في جبين وزارة التربية الوطنية، ما لم تبادر إلى حذفها عاجلا. كفانا استحضارا للهاجس الأمني عند كل محاولة تغيير منشود، ونهج سياسة النعامة التي لم تعد تستهوي أحدا، سوى العاجزين عن الخلق والابتكار، وضعاف النفوس. ففي رد السيد: لحسن الداودي، وزير التعليم العالي، عن سؤال شفوي بمجلس النواب، يتعلق بارتفاع عدد الحاصلين على البكالوريا، بمعدلات جد مرتفعة، أمام عدم قدرة المدارس العليا والكليات على استيعابهم، لم يتردد في الإقرار بما معناه، أن الأمر يرجع بالأساس، إلى ما تعرفه نقط المراقبة المستمرة من نفخ حد الانفجار، مما يقتضي التفكير الجدي في إلغاء العمل بضم نسبتها المحددة في %25،إلى مجموع الامتحانين الجهوي %25 والوطني  %50 أثناء احتساب المعدل العام لنيل شهادة البكالوريا، والاكتفاء فقط بمعدل الوطني على غرار ما كان العمل جاريا به ، في تلك الحقبة التاريخية من الزمن الجميل، عندما كانت البكالوريا ذات شأن عظيم... فهل يعلن السيد: "محمد الوفا" وزير التربية الوطنية عن تضامنه مع زميله في التعليم العالي، والتعجيل بطي صفحة المراقبة "السوداء"، لاستكمال مسلسل الإصلاح المأمول؟ سننتظر لنرى، إلى أي حد الحكومة قوية ومنسجمة...

ملحوظة: تم نشر هذا المقال بجريدة "الأحداث المغربية"
            ليوم: 23.10.2012، صفحة: 22

اسماعيل الحلوتي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-