عادت مسألة التعيينات المباشرة التي «اقترفتْها» الحكومة الحالية في سلك التربية والتكوين لتطرح نفسَها بقوة كعلامة على ذهنيات أدمنت حل مشكل ما بمشاكل أفظعَ، ففي الوقت الذي يتم الاعتراف بأن تعليمنا متأزم، بسبب ضعف تكوينات الموارد البشرية، أو عدم مواكبتها على الأقل، وتجري منذ ثلاث سنوات محاولات شاقة لتأهيل هذه الموارد ، عبر تسطير برامج تكوينية مكثفة، فإن الأكيد هو أن هناك إجماعا على أن هناك مشكلة في المؤهلات. ولأسباب تبيّنت في الأسابيع الأخيرة طبيعتها الانتخابية، عملت الحكومة بطريقة تنمّ عن عدم فهم طبيعة المشكلة، عملت على توظيف ما يناهز 2000 من خريجي الجامعات بطريقة مباشرة.
إن جميع الفاعلين التربويين في الجامعات يؤكدون أن ثلاث سنوات، والتي هي مدة التكوين في سلك الإجازة، غير كافية إطلاقا لتأهيل الطالب معرفيا ومنهجيا، فضلا على وجود مشاكلَ أخرى في صلب التكوينات، من قبيل أن طلبة علمَي النفس والاجتماع مثلا يُعيّنون مدرسين للفلسفة مباشرة، وهم لم يدرسوا في الجامعات إلا مجزوءة واحدة يتيمة في الفلسفة، والأمر ذاته في التخصصات المتشعّبة، كالبيولوجيا في علاقتها بالجيولوجيا والفيزياء في علاقتها بالكيمياء والرياضيات.. وغيرها من التخصصات.
وحتى كتابة هذه الأسطر، ما تزال الوزارة لم تعلن بعدُ عن مباريات المدارس العليا للأساتذة ومئات من الخريجين الجدد ينتظرون، وكأن الوزارة تطالبهم بالالتحاق بشوارع الرباط للاعتصام قصد تعيينهم بشكل مباشر، على غرار زملاء لهم سابقين، وما لا يعرفه المشرفون على الموارد البشرية في الوزارة، هو أن نخبة الطلبة هم الذين يستطيعون النجاح في المدارس العليا، والمفارقة الحقيقية هي أن الخريجين الذين فشلوا السنة الماضية في ولوج المدرسة العليا، نظرا إلى ضعف مستوياتهم المعرفية والتواصلية تم تعيينهم بشكل مباشر، والحكومة «حفظها الله» اختصرت عليهم السبل، بأنْ غضّت الطرف عن ضعفهم المعرفي
. المصدر : موقع تربية بريس
صحيح أن الشغل حق دستوري لا يرتفع، لكن التشغيل، في التعليم تحديدا، ينبغي أن تبقى له خصوصيته، فليس كل خريج جامعي مؤهلا لأن يكون مربيا. وعندما نُعيّن خريجا جامعيا في موقع المربي دون مؤهلات، نكون بهذا قد أسأنا إليه وأسأنا إلى مئات التلاميذ الذين «سيُجرّب» فيهم ضعف تكوينه.. والمفارقة التي لم تستوعب الوزرة خطورَتها هي أن المتفوقين خريجي المدارس العليا و«العاديين»، الذي فشلوا قبلا في ولوج هذه المدارس، سيتم تعيينهم سويا جنبا إلى جنب، دون أي امتياز أو اعتراف بفضيلة مفقودة، للأسف، عندنا اسمها التّميُّز.
فإذا كان اقتصاد الريع علامة بارزة على التخلف، لكونه يُكرّس قيّم المحسوبية والزبونية ويُهمّش قيّم المنافسة والجودة، فإن لهذا الوجه الاقتصادي وجها آخرَ، تربويا واجتماعيا، وهو حظوة الوظيفة العمومية عند مختلف خريجي المدارس والجامعات، فإذا كانت ثقافة اقتصاد الريع ما تزال متأصلة في دواليب الإدارة المغربية، بدليل اللائحة التي انفردت «المساء» بنشرها في الأسبوع الماضي، والتي ضمّت أسماء من استفادوا عقب التصويت على الدستور الجديد من «أكريمات» مقالع الرمال، «وما خفي أعظم بكل تأكيد»، فإن تحول الجامعات المغربية إلى مشتل لتفريخ «الموظفين العموميين»، دون غيرهم من أنواع اليد العاملة الأخرى، يجعلنا نسائل مجموعة من المشاريع، أهمّها مشروع التنمية البشرية ومشروع إصلاح الجامعة والمدرسة العمومية، إذ ما جدوى هذه التكوينات والمسالك والشّعَب الجديدة والمستحدثة بعد إقرار ما يعرف بالإصلاح إذا كان كل حامل شهادة جديدة هو، بالضرورة، وبشكل ميكانيكي، عضو جديد في صفوف جحافل المحتجين أمام البرلمان والمطالبين بالتشغيل في الوظيفة العمومية دون غيرها؟ فإذا كان مصير جميع العاطلين هو أن ينتهي بهم نضالهم موظفين في مكاتب بين الأوراق وخواتم الإدارة، فلماذا نسرف في تمويل المختبرات العلمية والأبحاث والتكوينات التقنية، ما دام كل خرجينا سينتهي بهم المطاف «مدفونين» بين طيات الإرساليات؟
هناك، إذن، ثلاث مشاكل خلقتها الحكومة، وهي تسعى إلى تحسين صورتها استعدادا للانتخابات القادمة، الأولى مشكلة التعيينات المباشرة في التعليم، مع أن هذا القطاع يعيش مخاض الإصلاح، ثم مشكلة إشعال حمى التشغيل في الوظيفة العمومية، مع أن الوضع الاقتصادي للمغرب -حسب ما اعترف به الناطق الرسمي باسم الحكومة نفسه- غير جيّد على الإطلاق، وأخيرا مشكلة تبخيس التّميُّز من خلال اعتماد خريجين بطريقة مباشرة، مع أن العادي والبادي يعرف الوضعية التربوية للجامعات التي تخرّجوا منها.
بخصوص المشكلتين الأولى والثالثة، نحن نعرف أن هناك مسؤولين كباراً في وزارة التربية الوطنية غير راضين على هذا التخبّط، لكن ما لا نستطيع تفهمه هو الإمعان في ضرب قيّم التّميُّز والتفوق، فإذا كان الحاصل على شهادة التبريز، مثلا، يتم تعيينه حتى الساعة، جنبا إلى جنب، إداريا وماليا ومهنيا، مع الحاصل على شهادة الماستر والمُعيَّن بطريقة مباشرة، فما الحاجة إلى «حْريقْ الرأس»، الذي يعاني منه طلبة سلك التبريز؟ ونفس الأمر مع خريجي باقي مراكز التكوين.. فالمطلوب اليوم هو أن نعرف أن أزمة قطاع التعليم لا تجد طريقها إلى الحل إلا بالاختيارات التدبيرية الواضحة، التي تبدع حلولا حقيقية، بدل سياسة «الترقاع» الحالية...
المصطفى مرادا
المساء
إن جميع الفاعلين التربويين في الجامعات يؤكدون أن ثلاث سنوات، والتي هي مدة التكوين في سلك الإجازة، غير كافية إطلاقا لتأهيل الطالب معرفيا ومنهجيا، فضلا على وجود مشاكلَ أخرى في صلب التكوينات، من قبيل أن طلبة علمَي النفس والاجتماع مثلا يُعيّنون مدرسين للفلسفة مباشرة، وهم لم يدرسوا في الجامعات إلا مجزوءة واحدة يتيمة في الفلسفة، والأمر ذاته في التخصصات المتشعّبة، كالبيولوجيا في علاقتها بالجيولوجيا والفيزياء في علاقتها بالكيمياء والرياضيات.. وغيرها من التخصصات.
وحتى كتابة هذه الأسطر، ما تزال الوزارة لم تعلن بعدُ عن مباريات المدارس العليا للأساتذة ومئات من الخريجين الجدد ينتظرون، وكأن الوزارة تطالبهم بالالتحاق بشوارع الرباط للاعتصام قصد تعيينهم بشكل مباشر، على غرار زملاء لهم سابقين، وما لا يعرفه المشرفون على الموارد البشرية في الوزارة، هو أن نخبة الطلبة هم الذين يستطيعون النجاح في المدارس العليا، والمفارقة الحقيقية هي أن الخريجين الذين فشلوا السنة الماضية في ولوج المدرسة العليا، نظرا إلى ضعف مستوياتهم المعرفية والتواصلية تم تعيينهم بشكل مباشر، والحكومة «حفظها الله» اختصرت عليهم السبل، بأنْ غضّت الطرف عن ضعفهم المعرفي
. المصدر : موقع تربية بريس
صحيح أن الشغل حق دستوري لا يرتفع، لكن التشغيل، في التعليم تحديدا، ينبغي أن تبقى له خصوصيته، فليس كل خريج جامعي مؤهلا لأن يكون مربيا. وعندما نُعيّن خريجا جامعيا في موقع المربي دون مؤهلات، نكون بهذا قد أسأنا إليه وأسأنا إلى مئات التلاميذ الذين «سيُجرّب» فيهم ضعف تكوينه.. والمفارقة التي لم تستوعب الوزرة خطورَتها هي أن المتفوقين خريجي المدارس العليا و«العاديين»، الذي فشلوا قبلا في ولوج هذه المدارس، سيتم تعيينهم سويا جنبا إلى جنب، دون أي امتياز أو اعتراف بفضيلة مفقودة، للأسف، عندنا اسمها التّميُّز.
فإذا كان اقتصاد الريع علامة بارزة على التخلف، لكونه يُكرّس قيّم المحسوبية والزبونية ويُهمّش قيّم المنافسة والجودة، فإن لهذا الوجه الاقتصادي وجها آخرَ، تربويا واجتماعيا، وهو حظوة الوظيفة العمومية عند مختلف خريجي المدارس والجامعات، فإذا كانت ثقافة اقتصاد الريع ما تزال متأصلة في دواليب الإدارة المغربية، بدليل اللائحة التي انفردت «المساء» بنشرها في الأسبوع الماضي، والتي ضمّت أسماء من استفادوا عقب التصويت على الدستور الجديد من «أكريمات» مقالع الرمال، «وما خفي أعظم بكل تأكيد»، فإن تحول الجامعات المغربية إلى مشتل لتفريخ «الموظفين العموميين»، دون غيرهم من أنواع اليد العاملة الأخرى، يجعلنا نسائل مجموعة من المشاريع، أهمّها مشروع التنمية البشرية ومشروع إصلاح الجامعة والمدرسة العمومية، إذ ما جدوى هذه التكوينات والمسالك والشّعَب الجديدة والمستحدثة بعد إقرار ما يعرف بالإصلاح إذا كان كل حامل شهادة جديدة هو، بالضرورة، وبشكل ميكانيكي، عضو جديد في صفوف جحافل المحتجين أمام البرلمان والمطالبين بالتشغيل في الوظيفة العمومية دون غيرها؟ فإذا كان مصير جميع العاطلين هو أن ينتهي بهم نضالهم موظفين في مكاتب بين الأوراق وخواتم الإدارة، فلماذا نسرف في تمويل المختبرات العلمية والأبحاث والتكوينات التقنية، ما دام كل خرجينا سينتهي بهم المطاف «مدفونين» بين طيات الإرساليات؟
هناك، إذن، ثلاث مشاكل خلقتها الحكومة، وهي تسعى إلى تحسين صورتها استعدادا للانتخابات القادمة، الأولى مشكلة التعيينات المباشرة في التعليم، مع أن هذا القطاع يعيش مخاض الإصلاح، ثم مشكلة إشعال حمى التشغيل في الوظيفة العمومية، مع أن الوضع الاقتصادي للمغرب -حسب ما اعترف به الناطق الرسمي باسم الحكومة نفسه- غير جيّد على الإطلاق، وأخيرا مشكلة تبخيس التّميُّز من خلال اعتماد خريجين بطريقة مباشرة، مع أن العادي والبادي يعرف الوضعية التربوية للجامعات التي تخرّجوا منها.
بخصوص المشكلتين الأولى والثالثة، نحن نعرف أن هناك مسؤولين كباراً في وزارة التربية الوطنية غير راضين على هذا التخبّط، لكن ما لا نستطيع تفهمه هو الإمعان في ضرب قيّم التّميُّز والتفوق، فإذا كان الحاصل على شهادة التبريز، مثلا، يتم تعيينه حتى الساعة، جنبا إلى جنب، إداريا وماليا ومهنيا، مع الحاصل على شهادة الماستر والمُعيَّن بطريقة مباشرة، فما الحاجة إلى «حْريقْ الرأس»، الذي يعاني منه طلبة سلك التبريز؟ ونفس الأمر مع خريجي باقي مراكز التكوين.. فالمطلوب اليوم هو أن نعرف أن أزمة قطاع التعليم لا تجد طريقها إلى الحل إلا بالاختيارات التدبيرية الواضحة، التي تبدع حلولا حقيقية، بدل سياسة «الترقاع» الحالية...
المصطفى مرادا
المساء