البرامج والمناهج الدينية بين الثابت والمتغير

بقلم: محمد أمين إدحيمود
طالب باحث بالمختبر العلمي والبيداغوجي في العلوم الإنسانية
كلية الآداب سايس / فاس. 


    يأتي هذا المقال في سياق الخطاب الملكي الداعي إلى ضرورة القول بمراجعة المناهج والبرامج الخاصة بتدريس مادة التربية الإسلامية 'التربية الدينية' وإعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة. فما هو سياق هذه الدعوى الملكية؟ وما هي مقتضياتها؟
    سأحاول مقاربة إشكال هذا الموضوع من خلال سياقين؛ سياق مجتمعي، وسياق تربوي بيداغوجي.

1ـــ السياق المجتمعي الحاكم على ضرورة القول بمراجعة برامج ومناهج التربية الدينية:
    إن اختيار المغاربة للدين الإسلامي كمرجعية اعتقادية وأخلاقية تؤطر علاقتهم بربهم وعلاقتهم بغيرهم؛ كان اختيارا موفقا وهاديا إلى صراط الله وجنته، وجامعا بين مصلحة الدنيا والآخرة، لأن الله سبحانه وتعالى أراد بأهل هذا البلد خيرا فهداه سبيل الرشاد وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وأمدهم بالنعم وأسبغ عليهم الخيرات؛ ومن أعظم هذه النعم التي يرغد فيها المغاربة الائتلاف والالتفاف حول كلمة الإسلام التي توحد الشمل، وتجمع القول، وهذا الجو الإسلامي الراقي، تحاول أن تنغصه بعض العناصر العلمانية المشوشة التي لا تحترم نفسها ولا تحترم الشرعية ولا المشروعية، ولا تؤمن بتعاليم الشريعة الإسلامية السمحة ولا تلتزم بالمقتضيات الدستورية التي تؤكد بالحرف على أن الإسلام هو المرجعية العليا للبلد، كما تؤكد على ضرورة السعي نحو صون هذه الهوية المشتركة والدود عنها من أجل حماية الأمن العقدي والروحي.
    واختيار المغاربة للدين الإسلامي نابعٌ من قناعة صادقة يجسدها كل المواطنين القاصي والداني، القريب والبعيد في شتى ربوع المملكة من خلال حرصهم على إقامة تعاليمه وإظهار شعائره وتعظيمها. ولا يخرج عن هذا السياق المجتمعي العام إلا شواذ من الخلْقِ وشرذمة لا عبرة بقولهم، ولا يَلْتَفِتُ إليهم أحد من أبناء الأصل والسمعة إلا بعض الوسائط الإعلامية التي يستنجدون بها ويرفعون بها رؤوسهم الفارغة والعابثة، أذكر على سبيل المثال الشرذمة التي رفعت شعار "ما صايمينش"، وحركة "جسدي ملكي" وحركة "داعش الإرهابية" وهذه الحركات منهم يدافع عن نفسه بدعوى 'الحرية الشخصية'، وصنف آخر لا يدافع وإنما يقارع بدعوى 'التكفير ومحاربة الفساد'، وكل هذه الحركات في نظري إجرامية لم تسلك السبيل الصحيح، لأنها تمارس إرهابا مجتمعيا يشوش ويسبب الفوضى والقلق للمواطن العادي السليم الطبع والفطرة ذهنيا ونفسيا وفكريا، وهذه الحركات بأشكالها وألوانها وأطيافها هي التي تَنْشر فكر التطرف والإرهاب وتهدد أمن البلد المادي والمعنوي 'العقدي'. ولاشك أن المتأمل في أحوال هؤلاء سَيَكْتَشِفُ بأنهم يعانون من قهر نفسي أو حالة مرضية نفسية مستعجلة ؟! وأشبههم بالجمل الاعتراضية ـــ في اللغة العربية ـــ التي لا محل لهم من الإعراب داخل النسق الثقافي والحضاري والعرفي للمجتمع المغربي الإيجابي المنتج، فيبحثون عن ابتداع أمور خارجة عن العادة والمألوف؛ كي يلفتوا الأنظار والأبصار، لإشعار الناس بوجودهم ولو على حساب تشويه عرضهم وسمعتهم، والغرض المقصود عندهم بالأصالة هو الخروج على الناس، ومحاولة صناعة أحداث 'صبيانية' لخلخلة الشارع العام، للظفر بكاميرات الإعلاميين، فبمجرد أن تنهي تلك الضجة الإعلامية تنطفئ شمعتهم، وتخمد نارهم، وتهدأ فتنتهم، وتنتهي القصة، فينقلبوا في معركتهم خائبين تائهين، وأمثال هؤلاء أخشى أن ينطبق على حالهم قول الحق سبحانه وتعالى: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويابى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون  هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [سورة التوبة، الآية: 32-33]
    ومناسبة ذكر هذا السياق المجتمعي، هو بيان قيمة الالتزام بتعاليم الدين في نفوس المغاربة وأن محركهم في ذلك هو تلك الفطرة السوية والسريرة النقية والغيرة التي جبلوا عليها وتوارثوها أبا عن جد، وأن الدين هو الأصل عندهم وأما الشاذ فسيبقى في البيئة المغربية دائما شاذا مهمشا ومنبوذا فكريا، لا يشكر سعيه ولا يلبى نداؤه ويتجاهل صوته، لأن هؤلاء يريدون أن يسيروا ضد التيار ويختارون مسلك الانفصال عن الجماعة، فيغردون خارج السرب، فسرعان ما يتجاوزهم السياق، كالشاة القاصية ؟!
فالقيم حاضرة عند المغاربة، ولكل قيمة قيمتها في نفوسهم، ويكرسونها جيلا عن جيل، فبيئة كهذه لن تجد بُدًّا ولا بديلا لاستبدال دين الإسلام بغيره، فكان لابد لأمير المؤمنين أن يستجيب ويخضع لهذا السياق المجتمعي الحاكم، وبالتالي القول بمراجعة المناهج والبرامج الدينية، لأنه يدرك يقينا بأن هذه المادة هي الكفيلة وحدها بحماية هذا السياق المجتمعي المحافظ، وستضمن له الاستمرارية في هدوء واستقرار وسكينة، بالإضافة إلى هذا التوحد والتكثل حول مفاهيم ومبادئ الأمة الجامعة، أما الشرذمة فدائما أقول أنها في حكم العدم، مع الاعتراف بحقوق الأقليات من المعاهدين والمتسترين تحت ديانات مختلفة بقناعاتهم الشخصية، فهؤلاء من واجبنا الدب عن أعراضهم وحفظ حقوقهم وإكرامهم وتكريمهم من منظور إنساني كوني، ويبقى تبادل الاحترام قائما وباب التعامل والتواصل وتبادل الخبرات مفتوحا. 
2ــ السياق التربوي والبيداغوجي: "من التربية الإسلامية إلى التربية الدينية، ما الجديد"؟
    إن مراجعة المناهج والبرامج فيه استجابة لضرورة حضارية تبحث عن منافذ لتعزيز مبادئ المواطنة الحقة، وقيم الحضارية الإنسانية، والانفتاح على الآخر والتفاعل معه ومحاولة التأثير فيه دون التأثر به عقديا؛ لأن الاعتبارات المشتركة الكونية حاضرة ولكن دون إغفالٍ لمقتضيات الخصوصية الدينية.
    كل شيء قابل للمراجعة إلا الثوابت الدينية والوطنية، وهي إشكالية كبيرة تفرض علينا إلحاق كلمة المراجعة باعتبارها مبتدأً، بخبرٍ صريح يحدد لنا محل المراجعة بدقة، هل هو من الثوابت أو من المتغيرات، وذلك حتى لا تدخل التأويلات المغرضة التي تستغل السياقات، وتركب فوق الأشكال والأحداث بمسميات براقة وفضفاضة تلفت الناظر، ولا تشكل في حقيقة الأمر سوى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فمقررات 'التربية الإسلامية' أو 'التربية الدينية' بغض النظر عن المسمى تحتاج إلى مراجعة بيداغوجية تعيد النظر في مكونات وعناصر المنهاج الدراسي وطرق تصريفه، وإلا فالمعرفة واحدة وهي التي أعتبرها ثابتة لا تقبل المراجعة، ولكن لابد من جعلها معرفة وظيفية، وأقصد هنا بالوظيفة أن نختار لبرامجنا ومناهجنا معرفة تُنْتِجُ القيم، لأن المفاهيم ـــ جزء من المعارف ـــ في التربية الإسلامية حاملة للقيم، فكيف يمكن أن ننتقل من تشكيل مفهوم إلى بناء قيمة، وتجسيدها في وضعيات تعليمية تعلمية، تتحول في مستقبل المتعلم إلى وضعيات مجتمعية ملموسة لتوظيف واستثمار الـمُكْتسب على أرض الواقع.
إن نقل القيم من الأستاذ إلى المتعلم يستلزم وجود عنصر مهم إذا غاب يَنْخَرِمُ الركن والبناء، فيضيع كل شيء؛ إنه الأستاذ الذي يتشبع بالقيم ويعرضها أمام المتعلمين في شكل مواقف ومبادئ. فالمتعلم سرعان ما ينسى المعرفة، ولكن هيهات هيهات أن ينسى المواقف والقيم التي يراها قائمة في أستاذه، وأكبر دليل على ما أقول؛ أننا لما كنا متعلمين صغارا نرتاد المدارس العمومية نَـمْتحُ ونَنْهلُ مجموعة من المعارف من الكتب المدرسية بمعية وتوجيهات أساتذتنا، ولكن كل هذه المعارف تُنسى وتذهب في مهب الريح، والذي يبقى في أذهاننا هي صُوَرُ هؤلاء الأساتذة المربين الغيورين على قيم الهوية والمواطنة، فلا نكاد ننسى صورهم وكلما تَذَكَّرْنَاهم إلا ونترحَّمُ عليهم، ولا نفتأ نذكرهم بالخير، أما الصنف الآخر من الأساتذة الذي يكون غرضه الأهم ومقصده الأصيل منصرف إلى الشحن المعرفي، فإن المتعلم ينساه بمجرد أن ينسى تلك المعرفة التي شحن بها دون وظيفية.
ألا يحتم الوضع إذن ضرورة الاستجابة لخطاب أمير المؤمنين والسعي إلى مراجعة مناهجنا وبرامجنا وطرق تصريفنا للمعارف ومنظومة القيم داخل مدارسنا ؟؟؟
    إن ذروة سنام الإصلاح هي الأستاذ، لأنه أقرب فاعل في المنظومة التربوية من التلميذ، فالوزارة تَضع وتَقترح وتَتَفلْسَفُ وتُقرر وتُبرمج وتُـمَنْهِجُ وتقنن وترسل، ثم ينتهي دورها، مع استحضار الوسيط الفعلي الذي يبقى متصلا ـــ أحيانا ـــ بينها وبين الأستاذ الذي هو 'المشرف التربوي'، ولكن بعد كل هذا 'الطبخ والتحضير النظري' تنتقل الأدوار إلى حلبة التنزيل وميدان الاختبار والتطبيق، هذه الحلبة الميدانية التي لا تتجاوز حدودها أقطاب ذلك المثلث الديداكتيكي (معلم، أستاذ، معرفة)، وهنا تبدأُ المعاناة الحقيقية وتَـحْضُرُ الإشكالات الديداكتيكية المقلقة، والمتعلقة أساسا بنقل القيم وتتبعها وتقويمها وتعزيزها وتصحيحها؛ لأن القيمة تحتاج في تصريفها ونقلها ديداكتيكيا إلى وقت أطول ومشقة أكبر من نقل المعرفة، إلا أن الإشكال الذي يَـحُزُّ في النفس والذي لا يدخل في باب التكليف بالمحال هو؛ أن تجد بعض الأساتذة يتعاملون مع تلامذتهم بسذاجة وأحيانا تصل معاملتهم إلى درجة 'الحمق'، وكأنهم يعتقدون بأن تلامذتهم مُغَفَّلون سَاهُونَ فيُكَّذِّبُونَ ـــ أي الأساتذة ـــ أقوالهم بأفعالهم، والمتعلمون يلاحظون هذه المفارقات والتناقضات الصارخة بين الحال والمقال، فيختار المتعلم تقديم الحال على المقال باستعمال قواعد الترجيح الثابتة عنده بالبديهة والفطرة "فيقدم الحال على المقال" ويعتبر بأن "الحال لا يكذب المقال"، وأن "العمل أبلغ من القول".
    وفي الختام أؤكد وأقول؛ بأن المراجعة والتجديد سنة الله في كونه لا يخلو منها برنامج ولا منهاج من صنع البشر، إلا أن المراجعة لا ينبغي أن تفهم على إطلاقها، بل لابد من استحضار ثنائية الثابت والمتغير حتى تستقيم معادلة الإصلاح وتسوي على سوقها، وبالتالي تنضج رؤيتها فتوتي أكلها بعد حين بإذن ربها.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-