الخطة الاستراتيجية لإصلاح التعليم 2015-2030 رؤية أم رؤيا

بقلم : الدكتور الوارث الحسن*

       شهدت المنظومة التعليمية بالمغرب ، العديد من محطات الإصلاح منذ المناظرة الأولى لسنة 1964م التي جاءت وفق المخطط الخماسي 1960-1964 ، مرورا بإصلاح 1966م ، ثم مناظرة إفران 1968 م ، فالإصلاح الرسمي من خلال سياسة التقويم الهيكلي الذي انطلق سنة 1983م ، و وصولا إلى الميثاق الوطني للتربية و التكوين سنة 2000م ، فالبرنامج الاستعجالي 2009-2012 و انتهاء بالرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 .
      ولو أمعنا النظر في هذه المحطات بمختلف توجهاتها و أهدافها السياسية و التربوية و الاجتماعية لوقفنا على جملة من المنطلقات المشتركة و التقاطعات العامة و الخاصة فيما بينها، و على عدد كبير من القضايا و المجالات ذات الأولوية ، كانت و ماتزال إلى حدود 2015م ، تحتل الصدارة في مخططات الإصلاح للمنظومة المغربية للتربية و التكوين ، و بقيت عدة إكراهات أخفقت تلك المناظرات و البرامج و المخططات في تجاوز عقباتها و إكراهاتها البنيوية،و عجزت في المقابل على إيجاد الوصفة الناجعة لنجاح الإصلاح، من خلال رصد الاختلالات التي تعاني منها المنظومة التعليمية في بلادنا .  
      صحيح أن المدرسة المغربية عبر هذه السيرورة التاريخية من الإصلاحات ، حققت مكتسبات لايستهان بها ، و لاسيما منها :
-تحديث الأطر المرجعية و القانونية
-مراجعة المناهج و البرامج الدراسية
-النمو الكمي في تعميم التمدرس
-تخويل بعض الصلاحيات للأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين ، في إطار الإرساء التدريجي للامركزية و لاتركيز
      -التوسع المرحلي لمؤسسات التكوين المهني
      -الحسم في مسألة التعريب و مغربة الأطر
     و على أهمية هذه المكتسبات ، فإن المنظومة التعليمية بالمغرب ، ما تزال تعاني من اختلالات مزمنة، تعكر صفو المدرسة المغربية و تجعلها في مصاف متأخرة تعيق تحقيق أهداف التنمية البشرية المستدامة .
     من هنا ، سنحاول في هذه الورقة مقاربة الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 ، و الوقوف عند النقاط المشتركة بينها و بين المحاولات السابقة لإصلاح منظومتنا التربوية و تبيان الإشكالات الموروثة عنها .
1-منطلقات الرؤية الاستراتيجية للإصلاح المقترحة :
      يكمن جوهر الرؤية الاستراتيجية التي أعدها المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي ، سنة 2015 م في إرساء مدرسة جديدة ، قوامها الإنصاف و تكافؤ الفرص مع الجودة للجميع و الارتقاء بالفرد و المجتمع ، و هي أسس و خيارت كبرى تأسست من خلال الخطب الملكية ،خصوصا خطاب ثورة الملك  و الشعب لعامي 2012 و 2013 و افتتاح الدورة التشريعية الخريفية لعام 2014 م و قد شكلت مدخلات الإصلاح و قدمت خارطة طريق نحو التغيير المنشود للتعليم لمواكبة التحديات و رهانات المستقبل وتجديد المنظومة التربوية من خلال :
-التنشئة الاجتماعية و التربية على القيم
-التعليم و التكوين و التأطير
-البحث و الابتكار
-التأهيل الكفيل بالاندماج الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي
و كل ذلك تحت شعار : من أجل مدرسة الإنصاف و الجودة و الارتقاء .
      وهي رهانات بقيت إرهاصاتها قائمة في المدرسة المغربية ، و لم تتمكن من تجاوزها عبر مختلف محطات الإصلاح السابقة ، و لنا في مجالات الميثاق الوطني للتربية و التكوين و دعائمه ، و مشاريع البرنامج الاستعجالي ، ما يساير هذه الرؤية لخدمة خطة العمل .
      فالميثاق الوطني ، قام على دعامة أساسية ، و هي الخطاب الملكي لصاحب الجلالة محمد السادس، في افتتاح الدورة الخريفية للسنة التشريعية الثالثة المتعلق بالتعليم في 08 أكتوبر 1999م ، و الذي جاء فيه :( إن غايتنا هي تكوين مواطن صالح ، قادر على اكتساب المعارف و المهارات ، مشبع في نفس الوقت بهويته التي تجعله فخورا بانتمائه ، مدركا لحقوقه وواجباته ، عارفا بالشأن المحلي و التزاماته الوطنية و مما ينبغي له نحو نفسه و أسرته و مجتمعه ، مستعدا لخدمة بلده بصدق و إخلاص و تفان و تضحية ...و نريد من مؤسساتنا التربوية و التعليمية أن تكون فاعلة و متجاوبة مع محيطها . و يقتضي ذلك تعميم التمدرس و تسهيليه على كل الفئات و بالأخص الفئات المحرومة و المناطق النائية التي ينبعي أن تحظى بتعامل تفضيلي ، و كذلك العناية بأطر التعليم التي نكن لها العطف و التقدير و التي هي في أمس الحاجة إلى مزيد من العناية بها و التكريم... ) . فكان أن تم تصميم الميثاق على مرتكزات أولية لنظام التربية و التكوين ، قوامها :
-التعبئة الوطنية
-اكتساب المعارف و المهارات
-تعميم التعليم
-التكوين البيداعوجي
      أما مرتكزات البرنامج الاستعجالي 2009-2012 ، و الذي جاء على أنقاض الميثاق الوطني للتربية و التكوين ، 2000-2007 ، فقد جاء تطبيقا للتوجيهات الملكية المتضمنة في خطاب افتتاح الدورة الخريفية لسنة 2007-2012 من أجل تسريع وتيرة إصلاح منظومة التربية و التعليم ، حيث وضعت وزارة التربية و الوطنية و التعليم العالي و تكوين الأطر و البحث العلمي ، برنامجا استعجاليا ، اعتمد في صياغته على التقرير الوطني الأول حول حالة منظومة التربية و التكوين و آفاقها الذي أصدر سنة 2008م ، من طرف المجلس الأعلى للتعليم ، حيث حدد المبدأ الجوهري لهذا البرنامج في جعل المتعلم في قلب المنظومة التعليمية ، من خلال تحقيق أهداف ، تدخل في إطار :
-إلزامية التمدرس
-ترسيخ بيداغوجيا الإدماج
-تحسين جودة التعليم
-تشجيع التفوق
و ذلك تحت شعار :  جميعا من أجل مدرسة النجاح .
      هكذا ، نلاحظ من هذا و ذاك و تلك ، أن الغايات المتوخاة من الإصلاح ، لم يطرأ عليها أي تغيير أو تقدم ، و كأن عجلة هذا الإصلاح في إرساء مدرسة جديدة ناجحة و منصفة  لم تبدأ بالدوران و ظلت ثابتة في مكانها ، رغم تغير الزمن و تطور المجتمع ، حيث بقي الرهان متوقفا على إلزامية التعليم و التمسك بالثوابت الدينية و الوطنية و المؤسساتية و الهوية الوطنية و قيم المواطنة و المساواة و امتلاك المعارف و الكفايات و المهارات و اكتساب التحصيل و الخبرة و ملاءمة وظائف المدرسة مع متطلبات المشروع المجتمعي الديموقراطي ، لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة .
      إن التغيير المنشود في هذه المنطلقات واجب ، و استنساخ الدعائم و المجالات و تحويلها في الرؤية الاستراتيجية إلى فصول و رافعات جدير بالارتقاء إلى مستوى أفضل ، يواكب التحولات الاجتماعية و العلمية و التكنولوجية و المعرفية التي شهدها المجتمع المغربي ، فكان لزاما التخلص من التبعية لهذه المنطلقات المستهلكة التي تجاوزها الزمن و تعزيزها بالمكتسبات التي حققتها المدرسة المغربية على أهميتها،و دعمها بمدخلات جديدة تندرج ضمن تموقع المغرب الحديث في تحولاته و مستجداته الراهنة لا العودة إلى المنطلق الأول للإصلاح كقاعدة أساسية لرسم التوجه العام للرؤية الاستراتيجية .
      فالمغرب الحديث ، يتموقع في مصاف البلدان الصاعدة ، و تنظيم الرؤية الجديدة للتعليم يحتم أن ينطلق من أين نحن الآن ، في مجتمع المعرفة و التكنولوجيا الحديثة و في مجالات العلوم الإنسانية و الفكر الحديث.
 2-رافعات الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 و إعادة إنتاج التجارب السابقة :
      تنتظم الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي ، كما هو معلوم ،في 23 رافعة ، ضمن أربعة فصول ، و هي كالآتي :
-الفصل الأول : من أجل مدرسة الإنصاف و تكافؤ الفرص
-الفصل الثاني : من أجل مدرسة الجودة للجميع
-الفصل الثالث : من أجل مدرسة الارتقاء بالفرد و المجتمع
-الفصل الرابع : من أجل ريادة ناجعة و تدبير جديد للتغيير
      و قبلها انتظم الميثاق الوطني في قسمين ، الأول منهما تضمن المبادىء الأساسية التي تضم المرتكزات الثابتة لنظام التربية و التكوين و الغايات الكبرى المتوخاة منه ، و حقوق وواجبات كل الشركاء  و التعبئة الوطنية لإنجاح الإصلاح . أما القسم الثاني فيحتوي على ستتة مجالات للتجديد موزعة على تسع عشرة دعامة للتغيير تقوم على :
-نشر التعليم و ربطه بالمحيط الاقتصادي
-الرفع من جودة التربية و التكوين
-الموارد البشرية
-التسيير و التدبير
-الشراكة و التمويل
      و بذلك ، جاءت دعامات التغيير في صيغة مقترحات عملية مقرونة كلما أمكن ، بسبل تطبيقها و آجاله .
     ثم جاء البرنامج الاستعجالي بأربع مجالات أولية، تتمثل في :
-المجال 1: التحقيق الفعلي لإلزامية التمدرس إلى غاية 15 سنة
-المجال 2: حفز روح المبادرة و التفوق في المؤسسات التعليمية
-المجال3 : مواجهة الإشكالات الأفقية للمنظومة التربوية
-المجال4: توفير وسائل النجاح
     من تم ، تبقى ما يقترحه المجلس في الرؤية الاستراتيجية ، من رافعات للتغيير، مصاحبة لكل المحاولات السابقة للإصلاح ، حيث الحضور الصريح أو الضمني ، لمختلف الإشكالات التي ظلت عالقة و متداولة ، و لم تتمكن على ما يبدو من وضع قطيعة معها ، من خلال ابتكار أفكار جديدة و إنتاج خطة بديلة لمنطلق الإصلاح و اتجاهاته ، توطيدا للمكتساب المحرزة و استدراكا للتعثرات الحاصلة ، قوامها الحسم في الإشكالات العرضانية العالقة ، دون الخوض في غمارها مجددا ، بعيدا عن الاجترارو الإطناب في إصلاح الإصلاح.
      فلا يختلف إثنان ، في كون المنهجيات المعتمدة ، في هذه الإصلاحات جميعها ، تقوم على تصور شمولي للمنظومة ، يخضع لتوصيات جاهزة سبق الخوض فيها، من قبيل : التعميم / الجودة / المدرسة العمومية / التعليم الخاص / إلزامية التعليم / التعليم الأولي / التأطير البيداغوجي / لغات التدريس / البحث العلمي / التكوين المهني / ...، و بذلك ، اتضح للجميع ، أفرادا و مؤسسات وطنية و دولية أن الإصلاح التربوي المأمول ، إلى حدود نهاية البرنامج الاستعجالي ، لم يحقق الأهداف التي وضعت له . و بالتالي ، بات السؤال مشروعا و ملحا و ضروريا ، عن السبيل لبناء نظام تعليمي يليق بمغرب الألفية الثالثة ؟ و يكون جديرا بتجاوز الإشكالات التي ساهمت في فشل كل الإصلاحات السابقة ؟.
      و تجنبا للخوض في تقديم إجابات جاهزة ، عن هذا الجانب ، نعتقد أن جملة من التقارير و التوصيات الصادرة عن اللقاءات التشاورية و المنتديات التربوية التي انفتح عليها في البداية المجلس الأعلى للتعليم خلال السنة الدرسية 2014-2015 ، باعتبار ذلك محطة أساسية في سيرورة متكاملة لبلورة مشروع تربوي جديد ، يعكس بحق ، تصور إصلاح المدرسة المغربية الجديدة ، لكفيل بأن ينظر إليها كمنطلق أساسي و جدي لأي رؤية استراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية الراهنة ، لأن فيها ما فيها من اقتراح حلول ناجعة ، قادرة على تأسيس مشروع تربوي يجسد طموح المجتمع المغربي في منظومته التعليمية باعتبارها  صادرة من الفاعلين التربويين أنفسهم و شركائهم في المنظومة التعليمية . 
      لقد شكلت تلك اللقاءات التشاورية ، فرصة تاريخية للتداول حول القضايا التربوية ، تهم الصورة الحقيقية للمدرسة المغربية و أسسها المنشودة  و على أهميتها كان من الأجدر الاقتداء بتوصياتها و مشاريعها ، و الوقوف عند اقتراحاتها العملية ، بدل تهميشها واجترار ما تم تداوله من إصلاحات في شكل إعادة إنتاج التجارب السابقة و إصدار نسخة ثانية منها والتي أثبتت فشلها و لا تستجيب لمتطلبات المدرسة المغربية الحديثة ، فلا إصلاح ناجح من دون تشخيص واقعي ، تشخيص من منظور المستهلكين لخدمات قطاع التعليم ، و ليس من منظور المسيرين له و المتنفذين فيه .
     إن الرؤية الاستراتيجية للإصلاح من منظورنا الخاص ، و بهذا التوجه الذي انطلقت به مهدت الطريق لأن تصبح فقط في المنظور البعيد  رؤيا ، نقول ذلك ، لأن ما تم تنزيله من رافعات ، قد جانبت في بعض مدخلاتها المعنيين المباشرين بالإصلاح رغم استشاراتهم ، فضلا عن عدم الاهتمام بالكتابات الصادرة عن الباحثين التربويين في المجال التعليمي ، في المقابل اختارت الاعتماد على التقرير الذي أعدته الهيئة الوطنية للتقييم سنة 2014 م ، حول تطبيق الميثاق الوطني للتربية و التكوين 2000-2013 و الموسوم بالمكتسبات و المعيقات و التحديات ، كوثيقة مرجعية وحيدة لتحديد عتبات الإصلاح ، و من خلالها تمت صياغة 23 رافعة ، تشكل الدعامة الأساسية لرؤية الإصلاح المنشود ، و تحدد من خلالها الاتجاهات العامة لمدرسة المستقبل .
    و هناك من المآخد أيضا ، ما يرتبط بمشكلة التنزيل ، تنزيل توصيات و رافعات الرؤية على أرض الواقع ، و خاصة أن المجلس أقر بوجود جملة من الاختلالات المومنة في منظومتنا التربوية ، تتمثل في مجال التمكن من اللغات و التكوين الأساس للفاعلين التربويين ، و الهدر المدرسي و صعوبة الولوج إلى التكنولوجيا ، و محدودية انفتاح و تفاعل المدرسة مع محيطها ... فمتى يتم تجاوز هذا الخلل الموروث؟ سنة 2020 م أو حتى سنة 2030 م ؟ فالمدرسة المغربية الجديدة ابتليت بفشل البرامج الجاهزة و ترسخت في عمقها ظواهر من شأنها وحدها أن تنسف الرؤية الاستراتيجية في مهدها ، و هي ظاهرة الاكتظاظ و نقص المدرسين و ضعف العدة البيداغوجية . فإعطاء الأولوية للمتعلم لايكون بحشره في فصل دراسي يتجاوز عدد تلامذته الأربعين و بوسائل تعليمية متهالكة ، لا علاقة لها بالتطور الذي حصل في مجال التكنولوجيا . و يظهر مرة أخرى أن المعول عليه هو خطاب النظرية و المنهج و الطريقة ، أي: الخطاب الذي جاء بالكفايات و الإدماج ، و ستوكل المهمة مرة أخرى للخبراء و المفتشين لاستعراض ماجاء به الفكر التربوي و الديداكتيكي في بلجيكا و كندا و فرنسا حول مشروع البيداغوجيا الفارقية و غيرها مما نجح هناك و فشل هنا بالمغرب.
3-الإشكالات المزمنة في المدرسة المغربية و المخرج من الأزمة :
      رغم المخططات و البرامج التي وضعت لإصلاح المنظومة التعليمية ، و رغم الميزانية الهائلة التي خصصت لتنزيلها ، خاصة مع البرنامج الاستعجالي ، إلا أن كل الدراسات و التقارير تكاد تجمع على فشلها ، و بقيت معها الوضعية التعليمية على حالها ،باستثناء بعض المكتسبات التي لم ترق إلى المستوى المطلوب. وذلك و لاشك ،بسبب التركيز على الجانب التقني و اعتماد مقاربة مقاولاتية دخيلة على المدرسة المغربية دون التركيز على الجانب البشري و مراعاة الخصوصية المغربية بالانفتاح على برامج أجنبية جاهزة و تطبيقها بطريقة فوقية على أرضية مختلفة عنها اقتصاديا واجتماعيا و ثقافيا ، ناهيك عن إهمال واضح للمثلث التعليمي" الأستاذ ، المتعلم ، المعرفة ". يقول الدكتور محمد عابد الجابري : ( إن الهدف من أي إصلاح للتعليم بالمغرب واضح ... و لا سبيل إلى ذلك ، إلا بالتخطيط العقلاني الحازم ، لبعث الحياة في المبادئ الوطنية للسياسة التعليمية في المغرب و تحيينها . إن التعليم و المجانية و التعريب ليست مقولات جامدة بل مطالب تجد ما يبررها في الواقع الراهن ، مثلما وجدت في الماضي ما أملاها وجعلها تجسم اختيار الأمة جمعاء...) .
   إن الوضعية الحالية تتطلب التنمية ، و تعني بالدرجة الأولى العمل على الخروج من التخلف ، الذي يتطلب تعميم التعليم و ضمانه للجميع ، و تعميم التعليم في المجتمع يعاني الفقر و البطالة و التهميش ، يتطلب المجانية و الحكامة في التدبير و هو ما يمكن من توصيل المعرفة إلى عموم الشعب عن طريق برامج مواتية للظرفبة الحالية ، و هذا هو عين العقل في كل إصلاح و المخرج الأول في رأينا من الأزمة الراهنة ، هذا فضلا عن تغطية الخصاص المهول في الموارد البشرية المؤهلة بالقطاع و تجويدها (أساتذة و أطر إدارية) من خلال تعبئة هذه الموارد و إعادة الثقة لها ، لضمان انخراطها و استثمار قيمتها المضافة ، و ذلك من خلال تحفيزها معنويا و ماديا و تثمين قدراتها و التجاوب مع مطالبها المشروعة ، باعتماد نظام أساسي جديد و منصف لكافة نساء و رجال التعليم ، على اختلاف مشاربهم على اعتبار أن النظام الحالي استنفذ جميع أغراضه ، مع الحرص على نهج مبادئ الحكامة الجيدة في جميع مراحل تدبير الموارد البشرية ( التوظيف ، الانتقاء ، الترقية ، الانتقال ) و ضمان تكافؤ الفرص فيما بينها بعيدا عن المحسوبية و الزبونية ، إضافة إلى ترسيخ ثقافة المحاسبة و المساءلة في كل تقصير و تقوية القدرات التدبيرية عبر الارتقاء بالتكوين الأساس و إعادة النظر في آليات و برامج التكوين المستمر .
    و من البديهي أيضا ، بأن نجاح أي مشروع إصلاحي، رهين بمدى تعبئة و تجنيد الشروط المادية و المالية و الإمكانات اللوجستيكية للانخراط الفعال في الإصلاح ، من خلال خلق مناصب مالية إضافية لتوظيف أطر تدبيرية و إدارية و تأطيرية و تدريسية كفأة و كافية تستجيب للمرحلة الراهنة و تفي بالغرض ، للتخلص النهائي من مشكل الاكتظاظ و الأقسام المشتركة و التكليفات و التعاقدات المرغمة و المشبوهة ، فضلا عن توفير الشروط المادية و التجهيزات البيداغوجية الملائمة و المساعدة على تحقيق جودة التعلمات لدى المتعلمين و تلبية حاجيات المدرسة من حيث الخدمات و البنيات و التجهيزات الكافية و الجيدة التي يمكن لها أن تقدم مختلف الخدمات المدرسية ( التفتحية ، التثقيفية ، الترفيهية، الرياضية ، الصحية ) الداعمة للمتعلمين ، و دعم الخدمات الاجتماعية من إيواء و إطعام و مساعدات مالية إضافية ، خصوصا لدى تلاميذ العالم القروي الذين يهددون المنظومة التعليمية بسلبيات الهدر المدرسي (الانقطاع غالبا ) .
      و إذا كان من الممكن إدخال تعبئة الكلفة المالية و التجهيزات و البنايات التحتية ، فيما هو لوجستيكي الذي يوفر الوسائل الضرورية لتحقيق أهداف الإصلاح التعليمي ، فإن التخطيط الجيد و المعقلن و التتبع و التقييم الجيد ، و الحكامة الجيدة ، هي كذلك وسائل و عمليات لوجستيكية ضرورية ، و لها فعاليتها في تنفيذ و هندسة المشروع الإصلاحي و تجويد منظومة التربية و التكوين .
     و بعد التعبئة البيداغوجية و البشرية و المالية و اللوجستيكية ، تأتي الأهمية الحاسمة في تنفيذ و إنجاح الإصلاح ، و نخص هنا بالذكر ، إقرار اللامركزية و اللاتمركز في تدبير الشأن التعليمي ، من خلال إرساء و بدون تأجيل ، الإدارة الجهوية للتدبير التربوي ، تمكن من تدبير مسؤول و حقيقي للتربية و التعليم ، على مستوى الجهة ، كما هو الحال مثلا في الأنظمة الفدرالية القديمة كألمانيا و الناشئة كماليزيا التي تشتغل بنظام تربوي لامركزي تبعا لتدبير سياسي واضح في سياق نظام ديموقراطي حقيقي. وهذا مربط الفرس و مكمن الداء في التعليم المغربي . فاللامركزية تهدف إلى نقل الاختصاصات ووسائل العمل من المركز إلى الأكاديميات الجهوية للتربية و التكوين و النيابات و المؤسسات التعليمية التابعة لها ، و اللاتمركز يسعى بدوره إلى تفويض السلط من المركز إلى الجهات وشبكات التربية و التكوين وفق النصوص التشريعية و التنظيمية الصادرة في هذا الشأن . من هنا بات من الضروري رفع مستوى الأكاديميات الجهوية إلى مؤسسات عمومية مستقلة تتمتع بالشخصية المعنوية و الاستقلال المالي في التنظيم و التسيير ، مع خضوعها لمراقبة السلطة الوصية طبقا للقوانين الجاري بها العمل .
      وفي الأخير،نقول إن التعبئة لإنجاح إصلاح التعليم ،ولجعل الرؤية الاستراتيجية المعدة له ، قاطرة حقيقية للتنمية والتقدم  و الرقي بالمنظومة التعليمية ، تحتاج إلى إرادة سياسية ومجتمعية حقيقية ومُواطنة،لجعل الجميع(الدولة ، الشركاء ، المجتمع ) ينخرط بمسؤولية وقناعة في تنزيل رافعات هذه الرؤية  وذلك من خلال توفير جميع شروط التعبئة وتفعيل كل الوسائل والاستراتيجيات المتاحة والضرورية،وعدم الاكتفاء بالخطابات الأخلاقية و التوصيات الرسمية ،خصوصا ونحن في زمن حضاري وسياسي ،يتسم بالتطور و التغيير،وبتصاعد الوعي واليقظة من أجل المواطنة وحقوق الإنسان ،ومحاربة كل أشكال الفساد والفقر والتخلف...

*- أستاذ باحث
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-