التعلم الذاتي ومهارات التفكير والابتكار

بوشيبة محمد الطيب*

تقديم:
يتسم مجتمعنا بسرعة الحركة والتغيير المستمرين، وتشتد حاجة الناس يوما بعد يوم إلى تحصيل أكبر قدر من المعلومات والمهارات. يبين "تولفر" أن حجم المعلومات المتوفرة لنا في عصرنا الحاضر قد تضاعف بشكل هائل يعجز عن وصفه الخيال. أما معرفة التكنولوجية، فقد ازدادت تعقيدا عما كانت عليه، كما ينتظر أن تزداد تعقيدا في المستقبل. أما المهن والحرف، فإنها تبدو شديدة المرونة وشديدة القابلية للتغير، مما يفرض على الناس أن يتكيفوا مع الأوضاع الجديدة باستمرار، وهذا يعني من أنهم لا بد أن يستمروا في عملية التعلم على مد الحياة . غير أن وضعا كهذا يقتضي تعريف الناس ب" أساليب التعلم " إلى جانب تعريفهم بالمعلومات والمهارات. وإنه لحري بالمدرسة الحديثة أن لا يقتصر دورها على تلقين مبادئ المعرفة في الميادين المختلفة، بل يمتد في ذلك في الدور إلى تعليم الناس المهارات التي تمكنهم من أن يقوموا بتعليم أنفسهم .

يفترض من الزاوية المثالية البحتة أن المدرسة قد أفرغت كل ما في جعبتها من مهمتها عندما يحين موعد تخريجها للطلبة الذين درسوا فيها . فالتلاميذ في سنوات الدراسة النهائية يجب أن يعتمدوا بتوجيه من مدرسيهم على جهودهم الخاصة في التحصيل العلمي . كما أن عليهم في المرحلة بالذات أن يكونوا قد ابتكروا لأنفسهم بعض مهارات التعلم الذاتي التي تمكنهم من ممارسة عملية التعلم . ويجب عليهم آنذاك أن يتقنوا عملية طرح الأسئلة التي تعينهم في تحديد المشكلات ، والبحث عن المعلومات ، والاستفادة بمساعدة الآخرين عندما تقتضي الضرورة، وابتداع  الحلول المبتكرة للمسائل ، وعدم إغفال الحلول التجريبية التي تمكنهم من قهر الشعور بالإحباط الناشئ من عدم القدرة على إعطاء الإجابات الفورية ... وهلم جرا.

إنه ليؤسفني حقا أن أقول بأنني أعرف من تجربتي الخاصة أن المدارس على وجه العموم لا تتصرف على هذا المنوال ، فالمدرسة الثانوية لا تقدم لطلبتها الفرصة الكافية لممارسة التعلم الذاتي . والتدرب على عليها . وبالإضافة إلى كل ذلك فإن البيئة المدرسية يجب أن تتيح للطلاب فرصة أوسع لتنمية المهارات كلما ارتقوا في سلم الدراسة .

إن أحد مصادر القوة التي كان يتمتع بها الجنس البشري ولا زال ، يتمثل في القدرة على التفكير وتحكيم العقل والقدرة على التخيل وإيجاد الحلول للمشاكل ، والانتقاء من بين البدائل والخيارات وتفحص جوانبها المختلفة والمقارنة بينها . نلاحظ على سبيل المثال أن عملية الاختراع توجه نحو تأمين مصالح الجنس البشري وتقدمه وإيجاد الحلول لمشكلاته الهامة ، وأن التقدم العلمي أسهم في خدمة الطب والمواصلات وغيرها ، كما تمكن بعض الأفراد باستخدام مواهبهم العقلية لحل عدد لا يحصى من المشكلات التي عانى منها الإنسان .

غير أن المدارس قلما تعنى بتطوير مثل هذه المهارات التي تزداد أهمية في مثل مجتمعنا الشديد التعقيد الدائب التغير. وإنني أومن في هذا المجال بضرورة إعطاء الأولوية في العمل التربوي ( في وقتنا الحالي أكثر من أي وقت مضى ) لتعامل التلاميذ مع مشكلات الحاضر والمستقبل . فمقرر (مادة التاريخ) على سبيل المثال ، يجب أن يمهد له بدراسة جادة لواقع الأوضاع العالمية ومشاكلها العصرية ، بالإضافة إلى كل ما يمكن التكهن به من مواصفات وتفاصيل خاصة بأحداث المستقبل، عند ذلك ، فقد تصبح دراسة الماضي قادرة على تحقيق تفهم أعمق للظروف التي تنبثق منها مشكلات العصر الحاضر ، وعند ذلك أيضا تستطيع دراسة الماضي أن تزود الدارسين بنماذج من التجارب التاريخية التي تمكنهم من إيجاد حلول أفضل للمشكلات المعاصرة ( ونأخذ على سبيل المثال دراسة الحروب الغابرة والأسباب التي أدت إليها ، إذ أن مثل هذه الدراسة ستساعد في فهم أفضل وتطوير وسائل وقائية أشد فعالية في منع الحروب في المستقبل ) . بمثل هذا الأسلوب تصبح دراسة التاريخ فرصة سائحة نابضة بالحياة تفيد في التأثير المستمر في كل من الحاضر والمستقبل .

وهناك وسيلة أخرى لتطوير هذه المهارات تتحقق من خلال استحضار المشكلات وعرضها. فدراسة القضايا التاريخية والقضايا المعاصرة يمكن أن تقدم لنا أساسا تبنى عليه دراسة بعض " الحالات الخاصة "، مما يساعد بالتالي على تركيز أذهان الطلبة على دراسة المسائل الهامة وتطوير قدراتهم على اتخاذ القرارات. وإنني أعتقد أن الإكثار من استعمال الألغاز وحل المشكلات وتنمية التفكير الخلاق، يمكن أن تسهم في تطوير هذه المهارات .

إن المهارات ذات العلاقة بالتفكير وحل المشكلات واتخاذ القرارات تزداد أهمية يوما بعد يوم في مجال مساعدة التلاميذ في تعاملهم مع مشكلات الحاضر والمستقبل. فالتفكير بلغة العلاقات بين الأشياء، هو الذي يمكن الناس من إدراك الروابط من الأحداث المختلفة ، وبه يمارسون عمليات ذهنية معقدة يكتشفون من خلالها كيف أن أحداثا معينة تؤثر في الناس وبطرق مختلفة متباينة. إن مثل هذا المدخل لدراسة " التفكير المركب " يساعدنا في التعامل مع تعقيدات عصرنا الحاضر، ويمكن التلاميذ من تفحص البدائل والنتائج وابتداع الأفكار البارعة والإفادة من مهارة اتخاذ القرارات في عملية الاختيار من بين البدائل المطروحة، وهو الذي يساعد التلاميذ في أن يتعلموا كيف يستعملون خيالهم في حل المشكلات الصعبة بأساليب مبتكرة ، وليس ما مر ذكره هنا في الحقيقة إلا قليل من كثير من المشكلات، واتخاذ القرارات التي يمكن أن يكتسبها التلاميذ بالتركيز على عمليات التفكير وحل المشكلات واتخاذ القرارات. ولابد من الإشارة هنا ، إلى أن تطوير مثل هذه المهارات سيكون أقل نجاحا إذا لم يستمر التدريب عليها بشكل منتظم، وعلى مدى فترة كافية وبأساليب مختلفة (......)

(....) إن ممارسة جميع هذه المهارات يجب أن تشكل خيطا متصلا لا ينقطع طيلة فترة الدراسة. فإلى جانب مادة الرياضيات التي تفيد في الارتقاء بالتفكير وحل المشكلات لا من برمجة بعض المناهج الأخرى بهدف خدمة المهارات إذا ما قام المدرسون منذ المراحل الأولى بمباشرة طرح الأسئلة ومطالبة التلاميذ بعمليات التصنيف والتدريب وبحث المشكلات وإجراء التجارب ... وما إليها . 


*أستاذ ثانوي تأهيلي من الدرجة الأولى
خبير في مجال التربية

فاعل جمعوي وحقوقي
منسق تربوي بسجون جهة طنجة - تطوان 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-